* ما هذا يا عائشة؟!!
– أي شيء تعنين.. أستاذة كارولينا!
* ما عنيته هو هذا الخمار الذي تلوثينه كالغبية.
– الخمار.. وما به!!
* ما به شيء غير أنه يحظر عليك الدراسة به!
– لكن ديني فرضه عليَّ.
ردت إليها الأستاذة كارولينا بغضب:
* إذن دعي دينك ينفعك، أو يغني عنك شيئاً!
– طأطأت عائشة رأسها، ودمعت عينها،
تابعت الأستاذة كارولينا كلامها..
* عزيزتي.. يستحيل عليك الجمع بين الدراسة وخمارك الغبي ثم ابتسمت ساخرة،..
– لكن..!
* لا أريد نقاشاً، ما دمنا محرومين من رؤية شعرك الجميل، فأنت محرومة من الدراسة.
الأستاذة كارولينا لم تكن تتكلم، بل كانت ترمي عائشة بأحجار قاسية جداً.. استدارت الأستاذة كارولينا، ومشت بكبرياء، وخلفها كانت طفلة صغيرة ترنو إليها، والغبن يلمع في عينيها.
– آه، لو أهشم رأسها!
أصابع الطفلة الصغيرة القابضة على مقبض الحقيبة لانت كثيراً فسقطت الحقيبة أرضاً، وغرقت في الطين، ثم تهاوت عائشة أرضاً غير آبهة بالطين، تقيض كفيها بغضب، فتحفر أخاديد في الطين، وتمتلئ دموعاً حارة جداً.
– يزعمون الحرية..! أنعم بها من حريّة تمنع طفلة صغيرة ترفل في ثوبها العاثر أن تلوث خماراً، أكنت سأمنع لو قصرت ثوبي كثيراً.. أكرههم.. يختبئون خلف أسماء براقة لامعة ليلقوا على حقيقتهم الأكنة، يثرثرون كثيراً، وينادون بحريتي، غير أنه كلام لا يجاوز الحناجر..
هل أستكين؟!
شعرت بالدنيا ألوانها تبهت، أردفتها الجائحة خائرة القوى، حائرة الفكر، وكالبرق وصلها الصوت من أعماقها.. ((أنت عزيزة بحجابك)) فشحنها بقوة قوية، وتفاؤلاً كبيرين سيرا ساقيها إلى بوابة المدرسة الداخلية.
– لن تثنيني صولتك أستاذة كارولينا.
صعدت درجات السلم، ثم عبرت الممر الطويل، لتقف قدماها أمام باب فصلها، ترددت، ثم تشجعت وفتحت الباب..
– بنجور مسيو كريستان!
لم يجبها أحد.. لأن علامة تعجب كبيرة سكنت عقول الفتيات..
لحظتها، ثم تصلبت على مقعدها بهدوء، والعيون لا زالت تحدق فيها، لمعت عيون بابتذال كبير، وأخرى تتعجب….، وسرى في الفصل همس سريان الدم في العروق..
– غريب..، هل أذنت لها الأستاذة كارولينا بهذا؟!
– لقد سمعت أنهم أذنوا به.
– أنها واثقة..
ومن بين همس الفتيات تكلمت سيمون الطالبة الجريئة في الفصل بصوت عال..
– هاه.. ألا يثير شكلها الضحك؟!
ثم ضحكت، وضحكت خلفها الفتيات، وكمقص حاد كان صوت الأستاذ كريستيان معلم التاريخ، فقطع الألسن الطويلة عن الطلام، واختفى الهمس تماماً.
– هدووووء!
ثم التفت إلى عائشة متسائلاً:
– أرأتك الأستاذة كارولينا؟!
– نعم رأتني.
حسناً.. لنستأنف الدرس..
وتابع الأستاذ كريستيان حديثه، وغاب الفصل مرة أخرى في غياهب الماضي، ولم يعهده إلى حاضره سوى صوت جرس المدرسة معلناً انتهاء الحصة الأولى، لملم الأستاذ كرستيان أوراقه وخرج مسرعاً، في حين التفت الفتيات حول عائشة، أعادت سيمون كلمتها ضاحكة:
– شكلك يثير الضحك، تبدين كعجوز مريضة تلوث خماراً يقيها البرد،
وأكملت بيتي ضاحكة أيضاً:
لو أني لم أرك قبل هذه المرة لقلت بأنك تتهادين في عقدك الخامس
وتحدثت ماردي برقة ودلال..
– ما أجملك اليوم يا عائشة!
وغرق الفصل في الضحك، ولم ينتشله منه إلا نحنحة الأستاذ رالف معلم الرياضيات، فعاد الكل إلى مكانه، عدنا إلى عائشة من خلف نظارته الكبيرة، ثم ابتسم ابتسامة عريضة جداً، وحين فكرت عائشة في مغزى ابتسامته ألقت بعقلها في قاموس من الحيرة، بُدء الدرس، وعاد الهدوء غاسلاً الفصل من الضحك الذي ملأه، وفي منتصف الدرس فتح باب الفصل بقوة وخلفه كان شبح الأستاذة كارولينا المتين..
– عائشااااااه!
– وقفت سريعاً.
– نعم.
– ما أجرأكِ، لماذا دخلت الفصل؟
وابتلعت عائشة الكلمات، والحروف مكرهة، ثم سحبتها من مقعدها، ورمت بإنذار فصلها في وجهها، وأخرجتها من الفصل، ثم من المدرسة، هنا تقافزت على لسان عائشة الكلمات وصرخت:
– كفاك ظلماً!
لم تكترث لها، وولّت والانتصار يلمح في عينيها الحادتين، والرذاذ البارد يتطاير خوفاً تحت حذائها العاليين، وسرعان ما اختفى شبحها المتين عن عيني عائشة الدامعتين، عادت الذاكرة بعائشة إلى نهاية حصة التاريخ، الأستاذ كرستيان يسألهن بوجل..
– هــاه.. ما هي مبادئ الثورة الفرنسية؟
– الحرية.. العدل.. المساواة..!
أحسنتن هذه هي مبادئ الثورة الفرنسية التي لا تنحاز عنها أبداً!
سحبت عائشة خطاها إلى منزلها.. وصوت الأستاذ كريستيان يطن في أذنها، ودموعها تعانق المطر مبللة أرصفة باريس الخشنة!
لا تحرمينا من جديدكِ
الطروحات المميزة