قصة قصيرة "في انتظار المعجزة"
لم تكد الشمس تشرق على هذه القرية الصغيرة الواقعة على الحدود الشمالية لتلك الامبراطورية العظيمة التي صمدت لفترة طويلة في ذلك العصر السحيق حتى استيقظ الجندي (سايبي) على يد غليظة كانت تهزه بعنف و كان صاحبها يصيح فيه:
– سايبي استيقظ, القائد يريدك في الحال.
كان سايبي فتى في أوائل العشرينات من العمر و لكنه كان قويا بصورة ملفتة للنظر و كان هادئا و رزينا لا يتحدث إلا قليلا جدا فكان يبدو و كأن هناك شيئا يشغل تفكيره معظم الوقت و لكن أحدا أبدا لم يعرف ما هو هذا الشيء.
انتفض سايبي من غفوته و ارتدى الزي الرسمي للمحاربين آنذاك في سرعة كبيرة وخرج يجري حتى قفز فوق فرسه و انطلق نحو خيمة قائد الجيش في القرية , لم يفكر طويلا في سر استدعاء قائد الجيش له فقد كان يعلم أن الأيام الأخيرة كانت أيام تحصيل الضرائب من طبقة الفلاحين و كان لابد و أن يقوم سايبي الجندي المخلص بتوصيل هذه الضرائب الى الامبراطور كما جرت العادة.
كانت هذه أول مرة يخرج فيها سايبي من خيمته في الأيام الأخيرة فقد كان لا يطيق مشاهدة الجنود و هم يحصلون الضرائب من الفلاحين الذين لا يكادون يجدون ما يسد جوعهم. كانت قوانين الامبراطور تقضي بتحصيل الضرائب على كل شيء. كانت هناك ضريبة على المسكن و على الدواب وعلى المحاصيل بل وعلى الرأس فكل مولود تدفع عليه ضريبة و كانت القوانين أيضا تقضي بجمع الضرائب بلا رحمة.
كانت عقدة سايبي من رؤية هذه المشاهد المؤلمة تتلخص في أنه هو نفسه كان في يوم من الأيام ضريبة حصلها جنود الامبراطور حينما لم يجدوا عند أبيه ما يدفعه.
جلس سايبي أمام القائد في خضوع لا يتناسب مع حجمه الكبير و قوته الملحوظة مقارنة بحجم القائد الضئيل المسن ثم لم يلبث القائد أن توجه إليه بالحديث : سايبي , أنت تعلم بالتأكيد أني أرسلت إليك لكي تحمل الضرئب إلى الإمبراطور في الجنوب و لكن هناك الكثير مما لا تعلمه و أشعر أنه قد حان الوقت لأطلعك عليه.
– تفضل يا سيدي
– إن التدريبات العنيفة التي كنتم تخضعون لها في الفترة الأخيرة لم تكن بسبب هجوما متوقعا من اعداء الإمبراطور كما كنت أزعم, و إنما كانت استعدادا للانقلاب على الإمبراطور.
رفع سايبي حاجبيه في دهشة و فتح فمه وكأنما تلقى طعنة في ظهره و لكن القائد استمر في الحديث : كنت على اتصال دائم بالقائد الأعلى للجيوش الجنوبية و هو من أقرب المقربين للإمبراطو و كنا نجهز معا لضربة قوية نعزل بها هذا الطاغية و نضع الحكم في أيدي العقلاء من الشعب ممن يحققون العدالة لهؤلاء الفلاحين المساكين, كان سيضرب هو ضربته في القصر و أنا كنت سأتولى أمر القائد الأعلى لجيوش الشمال.
صمت القائد لحظة و نظر إلى سايبي و كأنه كان ينتظر منه تعقيبا و لكنه لم ينطق بكلمة فمضى القائد في حديثه:
وصلتني رسالة من القائد الأعلى للجيوش الجنوبية يحذرني من أن الإمبراطور قد علم بأني أجري تدريبات سرية هنا و أني أحضر لانقلاب على قائد الجيوش الشمالية هنا و أن الإمبراطور الآن بصد إرسال قوات كبيرة لسحق جيشي و ربما سحق القرية كلها.
– نحن لن نتخلى عنك يا سيدي أبدا, سنقاتل معك حتى آخر لحظة.
– لا يا سايبي فهناك أمل في هدنة وهذا يتوقف عليك
– أمرك يا سيدي
– ربما لو وصلت بالضرائب والهدايا وكذلك الرسالة التي سوف أعطيها لك لتقرأها عليه لو وصلت قبل ان يصدر أمره للجيوش بالتحرك, ربما يعدل عن رأيه و يكذب هذه الأنباء التي وصلته عنا.
– و لكن ربما يكون من الافضل أن ترسل أحدا غيري لأقاتل بجانبك إن فشلت الخطة
ابتسم القائد ابتسامة يائسة و قال: لا يا سايبي فالرسالة التي سأرسلها معك سرية للغاية وأنا لا أئتمن أحدا عليها إلا أنت كما أني سأرسل معك (تاي) و (شون) فمهمتكم شديدة الأهمية وجودكم أحياء أهم.
فوجئ سايبي بشون وقد جهز نفسه للرحيل في زمن قياسي و كأنه كان مستعدا من قبل و كان شون شابا في مثل سن سايبي و لكنه كان شديد المكر و الدهاء, كان أحدا لا يستطيع أن يفهم ما يدور في ذهنه ,لم يكن في مثل قوة سايبي و لكنه كان يهزمه في المبارزة بفضل ذكائه و تركيزه على نقاط ضعف خصمه أما تاي فقد كان مظهره لا يوحي بأنه مجرد جندي في جيش قرية صغيرة و إنما كان يوحي بأنه قائد جيش على أقل تقدير و لكنه مع اهتمامه الزائد بمظهره لم يكن ذكيا بالقدر الكافي و كان من السهل جدا التأثير عليه و إقناعه بعمل أي شئ و خاصة إن كان هذا الشئ سيزيد من لفت الانظار إليه.
سار الثلاثة في سرعة و لم تمض إلا ايام قليلة حتى وصلوا إلى عاصمة الجنوب حيث قصر الإمبراطور و هناك استقبلهم القائد الأعلى للجيوش و كان يدعى (يونج) بحفاوة و أنزلهم في ضيافته ثم لم يلبث ان أرسل في طلب سايبي.
– أهلا بك يا سايبي, لا أدري ماذا أقول لك و لكن للأسف وصلتنا الأخبار بالأمس بأن قائد الجيوش الشمالية قد أغار على قريتكم وأتي عليها تماما حتى أنه لم يبق فيها دابة تتنفس الهواء.
شعر سايبي بمرارة كبيرة فقد كانت أول مرة يكلفه قائده بمهمة و يفشل فيها وأية مهمة تلك؟ إنها مهمة كانت لتنقذ آلاف الأرواح فقال في أسى : لقد كان سيدي يعقد آمالا كبيرة على هذه الرسالة لكي تزيل مخاوف الإمبراطور.
مد يونج يده و أخذ الرسالة من سايبي و هو يتساءل : أي رسالة تلك ؟
وما ان فتحها حتى أصدر ضحكة عالية ثم حول وجه الرسالة إلى سايبي قائلا : ترى كيف يكون لرسالة فارغة إن تطمئن الإمبراطور؟
وقف سايبي مذهولا ثم قال : و لكنه قال لي أنها رسالة في غاية الأهمية و قد تنقذ القرية بأكملها.
قال يونج : لقد كان رجلا ذكيا , كان يعلم أنك لن تتركه وحده إلا إذا أقنعك بأن خروجك قد ينقذه بينما كان هو يعلم أنه ميت لا محالة
– ولكن لماذا كان يريد الإبقاء علي حيا؟
– لست وحدك يا سايبي و إنما كان يريد الإبقاء على ثلاثتكم أنت و شون وتاي فأنت الجندي القوي المخلص و شون الذكي الماكر و تاي القائد المهيب لقد كان يؤمن أن جيشا به ثلاثتكم سوف يحرر الفلاحين المساكين يوما ما.
– أتمنى ذلك يا سيدي
– قل لي يا سايبي, ماذا تظنه ينقصنا لإنقاذ البلاد من هذا الطاغوت؟
– لا ينقصنا سوى الإيمان يا سيدي
– الإيمان؟ ماذا تقصد يا سايبي؟
– الإيمان بقدرتنا على تحقيق ذلك, الفلاحون ليسوا ضعفاء يا سيدي و لكنهم خاضعون لانهم لا يؤمنون بأنفسهم, إنهم يؤمنون بالخرافات و الأساطير التي سمعوها عن الإمبراطور, هذا المبعوث من قبل الألهة ليحكم الأرض و يأخذ خيراتها ليقدمها قرابين للألهة التي تحمي و تحرس هؤلاء الفلاحين و أبناءهم, إنهم يؤمنون بأن غضب الأمبراطور من غضب الألهة و عقوبته من عقوبتهم فلا يجرؤ أحد منهم على الاعتراض.
– و لكننا لسنا بحاجة إلى هؤلاء الفلاحين فالجيش هو الذي سيحارب و الجيش يؤمن بقوته
– و لم يحاربون؟ لم يواجهون الإمبراطور الذي يغدق عليهم بالأموال و المناصب؟ ليس كل الجنود يمتلكون قلبك الكبير يا سيدي, إن الفلاحين هم القوة الحقيقية التي لو آمنت بقدرتها لن يقف أمامها شيء.
أومأ يونج برأسه ولمعت عيناه و كأن سايبي قد أوحى إليه بفكرة أعجبته كثيرا و قر أن يبدأ بتنفيذها على الفور.
– تاي؟ إلى أين سترحل في هذا الوقت؟
وجه سايبي السؤال و هو يري تاي قد امتطى جوادا أبيضا و قد حمل عليه متاعه و كانه لن يعود ثانية
– أنا ذاهب إلى جزيرة (آش).
– آش؟ ماذا ستفعل في هذه الجزيرة المعزولة؟
– إنها تعليمات السيد يونج
لم يتحدث تاي بعدها و مضى في طريقه متخفيا و كأنه هارب من شئ ما مما أثار الريبة في صدر سايبي و قر أن ينتظر الصباح ليستعلم من السيد يونج عن حقيقة الأمر.
لم يكد النهار يطلع حتى بدأت أخبار غريبة تتناثر في كل مكان بالعاصمة الجنوبية, فقبل أن يصل سايبي إلي مقر السيد يونج كان قد سمع أنباء عن مصرع كبير الكهنة وعن أسطورة قديمة مخفاة كان بصد أن يخرجها إلى الناس قبل مصرعه.
استاذن سايبي في الدخول على القائد يونج فأذن له ثم ابتسم ابتسامة كبيرة و هو يمد يده إليه بمخطوط يبدو قديما جدا ويقول له: ما رأيك في هذا؟
تناولها سايبي و اخذ يقرأها بسرعة و بدأت ملامح وجهه تتغير كلما تقدم في القراءة ولما انتهى تحدث محاولا أن يربط الأحداث بعضهاثم قال:
– إذاً فهذه هي الأسطورة القديمة التي حاول الكاهن أن يخرجها و لكنه قتل قبل أن يفعل.
ضحك يونج بصوت عال قائلا : رائع ,لقد انتشرت الأخبار بسرعة كبيرة , ذلك ما كنت أرجوه و لكن يجب أن اخبر سايبي المخلص بعض الأسرار فمن غير المعقول أن تكون مثل هؤلاء العوام الذين سيصدقون هذا الهراء.
لم يجب سايبي و إنما بدت عليه علامات تفكير عميق و كأنه يحاول أن يفهم هذه الأسرار حتى قطع يونج تفكيره :
أليسوا يؤمنون بأن الأمبراطور مرسل من قبل الآلهة ؟ فلم إذاً لا نجعلهم يؤمنون بأسطورة أخرى؟ أسطورة بطل ترسله الآلهة من جزيرة بعيدة محاطة بأشجار عالية و يتبعه الفلاحون و العوام حتى إذا بلغوا مئة ألف قادهم بجواده الأبيض المهيب نحو قصر الأمبراطور فيدق رأسه و يحرق قصره ويقضي على جيوشه ثم يضع الحكم في أيدي العقلاء و العلماء فيرفعوا الضرائب من على الفلاحين و يوزعوا الأموال و المحاصيل بالتساوي بينهم حتى يعم الخير و الرخاء على الجميع, و لكي تكون القصة أكثر تأثيرا و إقناعا كان لابد من إيجاد سبب لإخفاء هذه الأسطورة, إنه الخوف من الامبراطور, حتى أنه لما حاول الكاهن إظهارها قتل في الحال لخطورتها على الأمبراطور.
أومأ سايبي برأسه متفهما و إن بدا عليه عدم الرضا ثم تمتم :و لم تكن هناك جزيرة نائية محاطة بالأشجار أنسب من جزيرة آش
وأكمل يونج: ولم يكن هناك بطلا مهيبا محبا للقيادة يسهل إقناعه بأداء هذا الدور أفضل من تاي.
– أرسل القائد يونج إلى سايبي و شون ليتدارسوا الموقف الحالي بعد أن وصل عدد أتباع تاي في جزيرة آش إلى ما يقرب من أربعين ألفا من الفلاحين و ما أن جلس الأثنين أمامه حتى قال موجها حديثه إلى سايبي : ما رأيك الآن يا سايبي؟ لقد وصل أتباع تاي إلى أربعين ألفا و قد علم الأمبراطور بأمرهم و أظنه سيرسل إلينا و إلى جيش الشمال لكي نسير إليهم,أتظنهم قادرون على المواجهة؟.
قال سايبي في سخرية : لا أظن سيبقى منهم أربعون أبلها إذا سمعوا فقط بتوجه جيوش الأمبراطور نحوهم.
– صاح يونج في انفعال شديد: ماذا؟ ألم تكن أنت صاحب فكرة الأسطورة؟ أكنت تسخر مني؟ من تظن نفسك أيها ال….
قاطعه سايبي في هدوء: على رسلك أيها القائد, لا أحد يجرؤ على السخرية منك , ولكني لم أكن صاحب فكرة هذه الأسطورة المخترعة السخيفة.
هدأ القائد قليلا و قال: ولكنك قلت لي أن الفلاحين لا يحاربون ويقاومون لأنهم يؤمنون بأسطورة و لن يغير من حالهم سوى الإيمان بغيرها
– هذا صحيح يا سيدي ولكني لم أقل أنهم ينقصهم الإيمان بأسطورة بلهاء مثل التي كانوا يؤمنون بها, سيدي إن الإنسان من الممكن أن يتظاهر بالإيمان بأسطورة حمقاء لأنها تنقذ حياته و حياة عائلته و لأنها تنأى به عن الدخول في مواجهات ستكون عواقبها وخيمة, و لكنه لن يؤمن أبدا بأسطورة بلهاء ستجلب له الموت.
– رائع, وماذا ترى الآن أيها الفيلسوف؟
– أرى أن نحذر تاي و من معه حتى يتمكنوا من الهروب في الوقت المناسب قبل وصول قوات الشمال, فنحن لن نستطيع تقديم المساعدة في هذا الوقت, فمواجهة جيش الشمال في آش لن يكون أمرا حكيما فالجزيرة قريبة من معقلهم و سيتفوقون علينا بالإمدادات السريعة, كما أن القيام بمثل هذا الأمر سينبه الإمبراطور و يجعله يزيد من احتياطاته هنا في الجنوب.
لم يعلق يونج على كلمات سايبي وحول بصره إلى شون الذي كان جالسا في صمت يحاول أن يعد نفسه للإجابة على السؤال الذي وجهه إليه يونج: وأنت أيها الجندي شون ما رأيك؟
– أنا أتفق مع سايبي في كل ما قاله و لكني أرى أن أمامنا فرصة ذهبية لكي نقلب الطاولة على الإمبراطور بل ونتخلص من جيش الشمال نهائيا.
نظر الاثنان إليه في دهشة وقال له يونج: وكيف نفعل ذلك أيها الجندي شون؟
نظر شون بطرف عينه إلى سايبي فهم يونج أنه لا يريد التحدث أمامه فأشار إلى سايبي بالانصراف فغادر في هدوء وإن كانت بدأت المخاوف تساوره تجاه خطة شون المقترحة, فقد كان يعرفه جيدا, كان شديد الذكاء ولكنه في نفس الوقت كان شديد القسوة.
أت الأوامر بالفعل من الأمبراطور للقائد يونج بتوجيه خمسين ألفا من الجنود نحو جزيرة آش و أرسل إلى قائد الجيوش الشمالية لتسير العدد نفسه إلى الجزيرة.
وما أن علم سايبي بالأوامر حتى سار إلى يونج و سأله: ماذا نويت أن تفعل يا سيدي ؟
أجابه القائد في برود : سنفذ الأوامر بالطبع أيها الجندي, سنرسل الخمسين ألفا
– ستحاربون بجانب جيوش الشمال وتقاتلون تاي و من معه من الفلاحين الضعفاء؟
– بل سنقذ الفلاحين الضعفاء
– كيف يا سيدي؟
– ستعلم كل شئ في حينه يا سايبي فلا تتعجل
– و هل أذهب معهم؟
– كلا يا سايبي, ستبقى هنا بجانبي
لم يشعر سايبي بالاطمئنان مطلقا و إنما كان يراوده شعور قوي بأن يونج لم يقل له الحقيقة فقر الذهاب إلى شون لعله يستنبط منه بعضا من الحقائق المخفية.
– أراك قد جهزت نفسك للرحيل يا شون
– هذا حقيقي يا سايبي فنحن ذاهبون الآن
– أشعر أنكم تخفون عني أمرا هاما
– لا تقلق يا عزيزي لن نتأخر كثيرا, سنعود قريبا
قريبا جدا….
سار ت الجيوش متجهة إلى جزيرة آش و لكنها لم تكد تبتعد بأكثر من مسيرة يوم واحد حتى انحرف معظم الجيش إلى أحد الأودية المختبئة خلف الجبال وأقامت معسكرها هناك و لم ينطلق نحو الجزيرة سوى خمسمئة رجل يتقدمهم شون.
كانت الجزيرة تقع في وسط بحيرة كبيرة في شمال شرق الإمبراطورية و تحيط بها الأشجار العالية من جميع الجوانب وكان لا يربطها باليابس سوى جسرين خشبين أحدهما في الشمال و الآخر في مواجهته تماما في جنوب الجزيرة
وصل شون و رجاله إلى جزيرة آش في الليل و توقفوا عند الجسر الجنوبي فأرسل شون ثلاثة من رجاله إلى داخل الجزيرة ليتاكدوا من وصول جنود الشمال و لم يمض وقت طويل حتى عادوا يؤكدون وصولهم وانتظارهم حتى الصباح لكي يبدأوا المعركة.
كانت هذه المعلومات كفيلة بأن يبدأ شون و رجاله في التحرك, انطلق الرجال يعبرون الجسر و ما أن وصلوا إلي آخره حتى أضرموا فيه النيران حتى انقطعت وسيلة اتصال الجزيرة الأولى بما حولها من اليابسة ثم قسموا أنفسهم فريقين سار أحدهم شرقا و الآخر غربا ودار كل منهما حول الجزيرة و هم يشعلون النيران في أشجارها الضخمة حتى تقابل الفريقان عند الجسر الشمالي فعبروا جميعا ثم فعلوا به كما فعلوا بالأول فانقطعت كل صلة للجزيرة بالأرض و صارت كتلة هائلة من النيران تخرج من وسط الماء.
عاد شون ورجاله إلى الوادي حيث بقي الجيش و سار ثلاثون ألفا منهم إلى الشمال للقضاء على ما تبقى من جيوش الشمال في عقر دارهم بينما سار العشرون ألفا الباقية عائدين إلى العاصمة حيث كان يونج و من بقي معه من الجنود في انتظارهم للقيام بالضربة القاصمة بالهجوم على القصر وعزل الإمبراطور وهي الضربة التي لم تأخذ منهم جهدا كبيرا حيث لم تكن هناك مقاومة تذكر, و ما أن انتهت المهمة حتى قر سايبي أن يسجل احتجاجه على الطريقة الوحشية التي تعامل بها شون مع تاي وأتباعه في جزيرة آش
– معذرة يا سيد يونج و لكني لا أفهم كيف تدعي أنك تفعل كل هذا من أجل الفلاحين و في نفس الوقت توافق شون على أن يحرق الآلاف منهم من دون أي ذنب ارتكبوه؟
قالها سايبي بعصبية شديدة ولكنها لم تغضب يونج , فقد كان يتوقع منه أكثر من ذلك.
– أنا لا أدعي شيئا يا سايبي, فكل ما فعلته هو من أجل الفلاحين, قل لي يا سايبي ما قيمة هؤلاء الذين تتحدث عنهم أمام مئات الآلاف الذين سيحيون حياة كريمة و من بعدهم الملاين من الأجيال القادمة التي ستنعم بثمرة هذا التغيير؟ إن كل معركة لابد فيها من خسائر يا سايبي و أنا اخترت أقل الخسائر.
سكت يونج قليلا ثم أردف : طالما كانت غايتك نبيلة فلا تبالي كيف, فمتى حققت للناس ما يبغون سينسى الجميع كل شئ.
– لا أظنهم سينسون, فهم لن يؤمنوا بك أبدا.
ضحك يونج ضحكة قصيرة بدا فيها الاستهزاء ثم قال : مرة أخرى يحدثني سايبي الفيلسوف عن الإيمان, حسنا, ربما لا يكونون مؤمنين بي و لكنهم يؤمنون بقوتي فلن يجرؤوا إلا على طاعتي, والجنود يؤمنون بأموالي فدراهم قليلة أكثر من التي كان الإمبراطور يعطيها لهم جعلتهم يوالوني و ينقلبون عليه.
– لقد كان الإمبراطور أيضا يظن ذلك
قطب يونج حاجبيه و بدت عليه العصبية , صاح : ماذا تعني؟
– أعني أن هذا الإيمان لن يدوم فغداً يأتي من هو أقوى منك و يدفع أكثر منك.
(بعد عامين من الانقلاب)
– أدار سايبي مفتاح الزنزانة الحديدية الكبيرة و تناول صينية خشبية عليها بعض قطع الخبز و كوبا من الماء ثم دخل الزنزانة وخاطب الرجل الهزيل الجالس في الركن المواجه للبواة : لقد أحضرت لك الطعام يا سيد يونج
نظر إليه يونج في هدوء و قد بدا و كأنه قد مرت عليه خمسون سنة وليس سنتان فقط و قال : اجلس يا سايبي فأنا أريد ان أتحدث إليك
جلس سايبي و أنتظر أن يبدأ يونج بالكلام فقال : ربما كان يجب علي أن استمع لرأيك يا سايبي: الفلاحون لا ينسون والجنود لا يشبعون, فعلى الرغم من كل الصلاحيات التي أعتيطها للفلاحين فقد أرادوا أكثر منها تعويضا لهم عن هؤلاء الذين أحترقوا في آش بينما الجنود كانوا يعلمون أنهم هم الذين يحموني من سخط الفلاحين فكانوا يؤلبونهم عليَ لكي يبتزوني و يطلبوا المزيد من الأموال وفي النهاية اجتمع الكل ضدي و ألقوا بي إلي هنا.
لم يشأ سايبي أن يقاطعه فصمت ولكنه اضطر إلى الحديث عندما توجه إليه يونج قائلا: ما رأيك يا سايبي؟ كيف يمكن قيادة هؤلاء؟
– ما زلت عند رأي يا سيدي, إنه الإيمان.
– ثم تابع: ليس الإيمان بالأساطير ولا بالقوة والأموال, إنه الإيمان بقوة كبرى يمدهم بها الإله, قوة تحكمهم بالعدل والحق, قوة يتحاكم إليها القوي والضعيف فتنصر المظلوم ولو كان هو الضعيف, قوة تحفزهم على القتال في سبيل الحق والعدل وتعد من يفعل ذلك بالعز والتمكين في حياته الأولى و النعيم الدائم في الحياة الأخرى, قوة تتوعد من يتخاذل ويتقاعس بالذل والمهانة في الحياة الأولى والعذاب المقيم في الحياة الثانية, قوة لو آمنوا بها ورعوها لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم, لو آمنوا بها لغلب العشرون مئتين و المئة ألفا من غير المؤمنين, قوة خالدة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
– نظر إليه يونج متأملا ثم قال: أنت تتحدث عن معجزة يا سايبي.
– نعم, ستكون أعظم معجزة في التاريخ وحتى تتحق فلن يكون هناك سلام ولا عدل.
– وماذا لو جاءت لقوم ثم لم يؤمنوا بها؟
– هم إذا لا يستحقون العيش, وحينئذ ستختار هي من يستحقها.
سكت يونج ثم مد بصره من النافذة أمامه إلى الأفق الواسع ثم تمتم في صوت خافت:
– نعم يا سايبي, و إلى أن يحدث ذلك فما علينا سوى انتظارها …….
انتظارالمعجزة………