بقلم: ابراهيم السكران
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وبعد،،
تتحدث كتب النفس وبرامج الاستشارات التلفزيونية والنصائح الطبية ونحوها عن مشكلة يسمونها (مشكلة السهر) .. ويطرحون لها الحلول والعلاجات ويتكلمون عن أضرارها، لكن ثمة نوع آخر من السهر لا أرى له ذكراً بينهم .. إنه سهر من نوع خاص .. سهر يذكره القرآن ويتحدث عنه كثيرا .. وكلما مررت بتلك الآيات التي تتحدث عن هذا السهر شعرت بالخجل من نفسي..
في أوائل سورة الذاريات لما ذكر الله أهوال يوم القيامة توقف السياق ثم بدأت الآيات تلوِّح بذكر فريقٍ حصد السعادة الأبدية واستطاع الوصول إلى (جناتٍ وعيون) .. ولكن ما السبب الذي أوصلهم إلى تلك السعادة بين مجاهل تلك الأهوال؟ إنه (السهر المجهول) .. تأمل كيف تشرح الآيات سبب وصول ذلك الفريق إلى الجنات والعيون:
(إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)[الذاريات،16-17].
أرأيت .. استحوذ عليك المشهد؟ لا عليك، شعورٌ طبيعي جداً..
تأمل كيف كان سبب سعادتهم أن نومهم باليل "قليل"! إذن أين يذهب بقية ليلهم؟ يذهب بالسهر مع الله جل وعلا .. ذلك السهر المجهول.. ذكرٌ لله، وتضرعٌ وابتهالٌ بين يديه، وتعظيمٌ له سبحانه، وافتقارٌ أمام غناه المطلق سبحانه، وركوعٌ وسجودٌ وقنوت .. هذا غالب اليل.. أما القليل منه فيذهب للنوم. القليل فقط بنص الآية (كانوا قليلاً من اليل ما يهجعون).. وفي سورة الزمر لما ذكر الله عدداً من الآيات الكونية عرض هذا السهر الإيماني بصيغة أخرى، لكن فيها من التشريف ما تتضع له النفوس .. لقد جعل الله هذا السهر الإيماني أحد معاير (العلم)، نعم.. قيام اليل أحد معاير العلم بنص القرآن، وهذا أمر لا تستطيع بتاتاً أن تستوعبه العقول المادية والمستغربة لأنها لم تتزكّ بعد بشكل تام وتخلص من رواسب الجاهلية الغربية، لاحظ كيف دلت خاتمة الآية على التشريف العلمي لهذا السهر الإيماني، يقول تعالى:
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر، 9]
فلاحظ في هذه الخاتمة كيف جعل الله من لم يقنت آناء اليل فهذا مؤشر على جهله، ومن قنت آناء اليل فهذا مؤشر على علمه.. وقد يقول قائل .. لكن كثيراً ممن لا يقنت آناء اليل نرى بالمقايس المادية المباشرة أن لديه علماً؟ فالجواب أن القرآن اعتبر العلم بثمرته لا بآلته، وثمرة العلم العبودية لله، فمن ضيع الثمرة لم تنفعه الآلة.. ثم لاحظ كيف وصفت الآيات تنوع العبادة (ساجداً وقائماً) .. بل وصفت الآية أحاسيس ومشاعر ذلك الساهر .. فهو من جهة قد اعتراه الوجل من يوم الآخرة ومن جهة أخرى قد دفعه رجاء رحمة الله (يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه) .. تمتزج هذه المشاعر الإيمانية طوال اليل البهيم بينما الناس حوله هاجعون.. هل ترى الله تعالى بعظمته وقدسيته سبحانه يصوِّر هذا المشهد الإيماني اليلي بلا رسالة يريد تعالى إيصالها لنا؟ أليس من الواضح أن الله يريدنا كذلك؟ يريدنا أن نكون قانتين آناء اليل ساجدين وقائمين نحذر الآخرة ونرجوا رحمة ربنا..؟ وتذكّر أن الله جعل ذلك معياراً من معاير (العلم)، ألا نريد أن نكون في معيار الله من (أهل العلم) ؟
وفي أواسط سورة السجدة ذكر الله المؤشرات الظاهرة التي تدل على إيمان الباطن، حيث استفتحها بقوله (إنما يؤمن بآياتنا.. الآية) وفي ثنايا تلك المؤشرات صورت الآيات مشهد ذلك المؤمن الصادق، وهو في فراشه، تهاجمه ذكرى الآخرة فلا يستطيع جنبه أن يسترخي للنوم. تأمل قوله تعالى:
(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) [السجدة: 16]. أخي الكريم .. يشهد الله وحده –وأنا أعلم شدة هذا الاستشهاد- أني مامررت بهذه الآية إلا أحسست بمقاريض الحرج تنهش أطرافي .. هاقد تصرمت ثلاثة عقود من عمري وأنا لم أتذوق هذا المقام الذي تصوره هذه الآية .. مامررت بهذه الآية إلا تخيلت أولئك القوم الذين ترسم هذه الآية مشهدهم .. وكأني أراهم منزعجين في فرشهم تتجافى بهم يتذكرون لقاء الله، ثم لم يطيقوا الأمر، وهبُّوا إلى مِيضأتهم، وتوجهوا للقبلة، وسبحوا في مناجاة مولاهم .. {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} ..
صحيحٌ أن هناك آيات كثيرة صورت السهر الإيماني، لكن هذه الآية بخصوصها لها وقعٌ خاص، مجرد تخيل أولئك القوم وهم يتقلبون في فرشهم ثم يهبّون للانطرح بين يدي الله وتضرعه وهم بين الخوف من العقوبة على خطاياهم والرجاء الذي يحدوهم لبحبوحة غفران الله، ثم مقارنة ذلك بأحوالنا وليلنا البئيس يجعل الأمر في غاية الحرج، إنهم قومٌ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)..
بل وتأمل في بلاغة القرآن كيف يجعل البيات قياماً كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن في سورة الفرقان (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا)[الفرقان: 64]
إنهم يبيتون .. لكنهم يبيتون لربهم في سجود وقيام..
ومن ألطف مواضع السهر الإيماني أن الله جعله من أهم عناصر التأهيل الدعوي في بداية الطريق، الله سبحانه وتعالى لم يجعل أعظم السهر الإيماني في آخر الدعوة النبوية بعد استيفاء التدرج، كلا، بل جعله في أولها! فقال تعالى لنبيه في آياتٍ كادت تستغرق اليل:
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّيْلَ إِلَّا قَلِيلا) [المزمل، 1-2]
لاحظ معي أن النبي –صلى الله عليه وسلم- في بداية الدعوة، ومع ذلك يقول له (قم اليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه)..
وهل كان فعل ذلك مختص برسول الله؟ لا، بل كان أصحابه في أيام غربة الدعوة يصلون معه تلك الصلوات التي تستغرق اليل، يقول تعالى في آخر السورة:
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ)[المزمل، 20].
السابقون الأولون من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خلّد الله قيامهم غالب اليل في كتابه العظيم، أي شرف أعظم من هذا الشرف لأصحاب رسول الله..
أما نحن فمنا أقوامٌ ينامون اليل كله ويستثقلون دقائق معدودة ليتهجدوا فيها بين يدي الله، ومنا أقوامٌ يسهرون اليل كله لكن في استراحات اللهو ويستكثرون أن يتوقفوا لدقائق ليقفوا بين يدي الله، ومنا أقوامٌ يذهب ليلهم في تصفح شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ومشاهدة مقاطع اليوتيوب وتعليقاتٍ تافهة لا تقرب من الله ويمن على نفسه بركيعات في آخر اليل لله جل وعلا.. بل هناك ماهو أتعس من ذلك، وهو أن بعضهم ينقضي اليل ويدخل وقت الفجر وتقام صلاة الفريضة والإمام يقرأ فوق رأسه بينما هو لازال كما قال تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى) [النساء، 142].
وأتذكر مرةً أني كنت أستمع لبعض المنتسبين للدعوة يتحدث عن النجاح والوقت وإدارة الذات الخ، ولما جاء لقضية النوم، عرض النوم كما يعرضه الإنسان الغربي تماماً، بل صار يغالي في ضرورة أخذ أكبر قدر من النوم ويتحدث بنفس المعاير الغربية.. يا ألله .. هل بلغت غربة الدين هذا المبلغ؟ فأين ذهبت حقائق القرآن (كانوا قليلاً من اليل ما يهجعون) ، (أمّن هو قانت آناء اليل ساجداً وقائما) ، (تجافى جنوبهم عن المضاجع) ، (والذين يبيتون لربهم سجداً وقياما).. صحيح أن ذلك نفلٌ ولكن لماذا صار النفل يغيب عن وصايانا؟ لماذا خضعت الشريعة للتخفيضا؟ لماذا صرنا نخجل من كتاب الله؟ لو كان النوم بالمعاير الغربية أنفع للإنسا لما ندبنا الله لضده في كتابه في مواضع كثيرة..
والله لو تدبرنا القرآن ونحن مستحضرين هذا السؤال: كيف نصوغ حياتنا في ليلنا ونهارنا؟ لفجعنا بشدة المفارقة بين فهم المؤمن لهذه الحياة الدنيا، وفهم الإنسان الغربي المسكين لها..
وبعض الشباب يقول: إني لم أتعود على قيام اليل، وليس لي تجربة سابقة، وأشعر أنها صعبة، الخ والجواب: يا أخي استعن بالله ولنبدأ سوياً من هذه اليلة القادمة، لا تؤجل هذا المشروع أبداً، وصدقني ستجد لذةً في البداية يهبها الله من يقبل عليه ليعينه، وهذه الذة والسرور تحدث عنها أهل العبودية يقول ابن القيم (قال الجنيد "واشوقاه إلى أوقات البداية" يعني: لذة أوقات البداية، وجمع الهمة على الطلب والسير إلى الله) [مدارج السالكين، ابن القيم].
فهنيئاً لك يا أخي الكريم لذة أوقات البداية.. وهذه الآيات كلها التي صورت قيام اليل يدخل فيها مرتبتان، قيام الفرض كصلاة العشاء وقيام الكمال كالتهجد، وبعض المفسرين يخطئ في حمل بعض هذه الآيات على أحد المحملين، والصحيح أنها تشمل المرتبتين..
ولكن ما وظيفة هذا السهر الإيماني؟ الحقيقة أن وظائفه كثيرة جداً، ولكن من أعظم وظائفه أن تلك الحظات هي لحظات (الاستمداد) .. إذا تجافى جنب المؤمن عن المضجع وتوضأ ثم وقف بين يدي ربه ثم سجد بدأت دقائق الاستمداد .. فيستمد من خزائن رحمات الله.. من أرزاقه.. من العلم.. من التوفيق.. من الهداية.. إنها لحظة الدعم المفتوح.. ورحمات الله إذا فتحت فلا تسل عن أمدائها (مَا يَفْتَحِ الَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا) [فاطر، 2]
اللهم يارب اليل البهيم .. اجلعنا من تتجافى جنوبهم عن المضاجع ندعوك خوفاً وطمعا.. (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)[السجدة، 16].