يـؤتـي الـحكــمة مـــن يشــاء
جلس وليد بالمقهى ينتظر صديقه فيصل الذي تأخر كعادته دائما عندما يكون بينهما موعد، طلب وليد فنجان قهوة منتظرا وصول صديقه الذي جاء بعد تأخير والفرحة تعم وجهه مسروراً، جلس على الطاولة بجانب صديقه وليد والفرحة لا تفارق محياه، فسأله وليد عن سبب فرحته وسروره.
فقال فيصل: والله سمعت قصة حلوة كثير، وأنا قادم بالسيارة سمعت على الإذاعة قصة رجل حكيم كانت ممتعة كثيرا، والله هؤلاء الأذكياء دايما قصصهم ممتعة.
ضحك وليد على كلام صديقه فيصل قائلا له: ليس كل ذكيا هو حكيم ولكن كل حكيم هو ذكي يا صديقي العزيز، قالها وهو ينادى على صاحب المقهى ليطلب القهوة له ولفيصل.
استغرب فيصل من كلام وليد وقال: أعلم أن الذكي هو الحكيم ويتمتع بحكمة بتصرفه وكلامه، هذا ما أعرفه وما توارثته عن مجتمعي فالحكمة هي أن يكون الشخص ذكي وشاطر ويعرف ان يقول ما يريد بسرعة.
قال وليد: ما ذكرته لا يمت للحكمة من صلة بشيء وما هو إلا آراء وأهواء أشخاص لا علم لهم، سوى نفح الكلام المسموم بعقول الشباب ليغيروا المعتقدات الصحيحة إلى معتقدات تلبس عقولهم بخرافات ومعاني لا معنى لها.
قال له فيصل: طيب خبرنا، وما هي الحكمة بمفهومك يا حكيم زمانك
قال وليد: يا صديقي العزيز الحكمة كما عرفها ابن القيم جوزية رحمه الله: فعل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي.
قال فيصل مستغربا: ماذا قلت،هل تتحدث ألغاز وضح ما تقصده بما ينبغي وما ينبغي.
قال وليد موضحا كلامه: اسمع ما اقول لك عن الحكمة وتعريفها وستعرف الفرق بين الحكمة والذكاء والله المستعان.
الحكمة مأخوذة من الحكمة – بفتح الكاف والميم – وهو ما يوضع للدابة كي يذللها راكبها فيمنع جماحها . ومنه اشتقت الحكمة قالوا : لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل .
قاطع فيصل صديقه وليد: ممتاز يعني أنا حكيم، حسب تفسيرك للحكمة، فالحمد لله أنا أبتعد عن الرذائل، والله كلامك جواهر، واطلق ضحكة عالية.
ضحك وليد من حديث فيصل وقال له إنتظر حتى أكمل لك ما بدأته: يا صديقي العزيز الحكمة التي نتحدث عنها هي الحكمة التي ينبغي أن يتصف بها القائم بالدعوة إلى الله ، ومن أجل هذا فهي غالبا ما تكون قولا في علم وموعظة أو تصرفا نحو الآخرين من أجل دفعهم إلى الخير أو صرفهم عن الشر .
وفي هذا المفهوم . يقول ابن زيد : ( كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة ) .
قاطعه فيصل قائلا: على هيك عمرنا ماراح نصير حكماء ولا نعرف طريقها.
قال له وليد: وما الذي دعاك لقول هذا الشيء وتعتقده.
رد فيصل: انت الذي قلت هذا، ألم تقل الآن أن الحكمة ينبغي أن يتصف بها القائم بالدعوة إلى الله، وأنا لست داع فوظيفتي تتعلق بالكمبيوتر لا دخل لها بالدين بتاتا.
ضحك وليد على كلمات صديقه وقال له: بل يا أخي كل مسلم هو داع إلى الله وهي وظيفته منذ نعومة أظفاره حتى مماته، ألم تقرأ قوله تعالى (كنتم خير أمة إخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) فأنت يا صديقي من أمة مهمتها نشر الدين والدعوة مهما علا شأنك أو نقص.
حرك فيصل رأسه موافقا على مقولة صديقه وليد وطالبا منه إكمال حديثه الذي زاده إمتاعا.
قال وليد مكملا حديثه: أنت يا صديقي العزيز أعتقدت كما أعتقد غيرك أنت الحكمة هي الذكاء وأنا سأقول لك ما هو الفرق بينهما، من ملامح الأذكياء سرعة البديهة ، وإطلاق الأحكام ، وسرعة تشكيل المواقف ، لكن الحكيم طراز آخر من الناس ، فهو بطيء في تكوين معتقداته ، وصياغة مقولاته ، إذ إنه يملك قدرة خاصة على ضرب كل أشكال المعرفة والخبرة في بعضها بعضاً ، ليخرج في النهاية بزبدة تتميز عنها جميعاً ، لكنها منها جميعاً !
يا صديقي العزيز، الحكيم هو أقدر من الذكي على فهم المشاكل وحلها، فالذكي يكون لماحا وقد يعطيك حلا يكون مصيبا فيه أو مخطئا، لكن الحكيم لا يعطي حلا إلا إذا كان متاكدا منه فكل حكيم هو ذكي لكن ليس كل ذكيا هو حكيم.
قال له فيصل: كلامك لا غبار عليه، لكن اعرف أن الذكاء وراثي فهل الحكمة وراثية أم مكتسبة، هل ممكن أن أكون حكيما أو أتعلم الحكمة من احد الحكماء.
قال وليد: جيد أنك سألت هذا السؤال وسوف أعطيك الجواب الكافي من القرآن الكريم وأشرحه لك إن شاء الله، يقول الله (جل وعلا) : { يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراًكَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [البقرة : 269[. وعنابن عباس رضي الله عنهما قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: "اللهم علمه الحكمة"[رواه البخاري]
هذان دليلان على أن الحكمة مكتسبة وليست وراثية ، وحتى تعرف الحكمة وتتعلمها فإنه يمكن تحليلها إلى العناصرالمكوّنة لها ، وهي ثلاثة : الذكاء ، والمعرفة ، والإرادة ؛ فالذكاء اللماح، والمعرفة الواسعة، والإرادة الصُلبة تكوّن معاً : (الحكمة) ، وعلى مقدار كمال هذه العناصر يكون كمالها .
الذكاء بمفرده لا يجعل الإنسان حكيماً ؛ إذ الملموس أن الذكاء دون قاعدة جيدة من العلم والخبرة ينتج فروضاً ومعرفة شكلية، كما أن المعرفة دون ذكاء تجعل استفادة صاحبها منها محدودة ، وتجعل وظيفته مجرد الحفظ والنقل ، دون التمكن من غربلة المعرفة أو الإضافة إليها . والأهم من هذا وذاك : أن المعرفة دون ذكاء تؤخر ولادة الموقف الحكيم ، وتجعل الواحد منا يأتي بعد الحدث بسبب ضعف البداهة .
ولا يكفي الذكاء اللمّاح ، ولا الخبرة الواسعة في جعل الإنسان حكيماً ما لم يمتلك قوة الإرادة ؛ لأن الإرادة القوية وحدها هي التي تجعلنا ننصاع لأمر الخبرة.
إن المعرفة مهما كانت واسعة لا تعدو أن تكون إحدى مكوّنات (الحكمة) ، ومن ثم : فإن هناك فارقاً بين العالِم والحكيم ، فقد يكون المرء قمة فيتخصص من التخصصات ، لكنه لا يُعدّ حكيماً ، كما أن الحكيم قد لا يكون عالماً متبحراً في أي علم من العلوم .
العلماء كثر ، والحكماء نادرون ؛ لأن تحليل المعرفة أسهل من تركيبها، الإرادة الصُلبة مكوّن أساس من مكونات (الحكمة).
قال فيصل: والله كلامك جواهر وما قلته زادني شوقا ورغبة لتعلم الحكمة، والآن علمني كيف يمكن أن أكون حكيما؟
رد وليد قائلا:الحكمة فضل من الله، وما عند الله من خير وبركة لا نناله إلا بطاعته، ومن أعظم أسباب ذلك التجرد والإخلاص والتقوى وطلب العلم الشرعي منمظانه، والاستشارة والاستخارة، وبُعد النظر وسمو الأهداف وفقه السنن الكونيةوالشرعية، والعدل والتثبت والمجاهدة والدعاء والصبر والرفق ولين الجانب، وقد تجتمع هذه الأركان في شخص واحد – وهو نادر وقليل – وقد تتوافر في مجموعة من الأفراد،و لهذا فإن الحكمة قد تكون كاملة وقد تكون نسبية وهو الأكثر.
لابد من عدم التساهل في موضوع بر الوالدين وتربية الأولاد ومصاحبة الزوجة ومعاشرتها وصلة الأهل والأرحام.
وكذلك لابد من مراعاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وقد ذكر العلماء ضوابط لذلك ، فلا يجوز إنكار المنكر بمنكر أعظم، ولا إنكار المنكر بتثبيته والإتيان بمنكر آخر، ولا استعداء الأذى على الأهل والإخوان والأصدقاء، ولا يتم ذلك بإتلاف النفس في غير مصلحة شرعية، فالإخلال بالحكمة له آثاره التي لاتخفى.
لابد من حيطة وتثبت في نقل الأخبار وخصوصًا ما يتعلق منها باتهام الآخرين وما يترتب عليه إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
عليك أن تؤمن بالله وتتبع شرعه وتبتعد عن نواهيه حتى تستطيع تعلم الحكمة واكتسابها، والأهم قراءة القرآن وتدبر معانيه باستمرار ففيه الكثير من الخير والمعرفة تفيدك بتحكيم عقلك وتغليبه على عواطفك عندما تواجهك المعضلات، ابحث عن الخير دائما وابتعد عن طريق الشر وحاول التعلم دائما ولا تتوقف، فالعلم والجهل ضدان لا يجتمعان والحكمة تكون مع العلم، والجاهل لا يمتلك العلم والمعرفة فكيف سيعطيك النصح والمشورة.
أومأ فيصل برأسه موافقا على كلام أخيه وليد، وهم بالمغادرة فقال له وليد: إلى أين يا صديقي العزيز.
قال فيصل: وهل بقي بعد كلامك كلام، سأذهب للبحث عن المعرفة والحكمة لعلي أصبح يوما حكيما، وتأتيني باحثا عن رأي أو مشورة، وغادر فيصل المقهى مودعا صديقه وليد تاركا إياه خلفه ليدفع الحساب.
———————
منقول