الحمد لله الذي قدّر الأقدار فهدى كلَّ من خلق إلى ماقدّر , ودبّر بعلمِه كلّ شيءٍ فسخّر كلّ شيء لمادبّر , هو الحكيم الذي تقف عند حكمته كلّ حكمة لأّنها من حكمتِهِ سميتْ حكمةً ولو شاء ربي ما رُزِق الحكمة من أحدٍ أبدا , الحمد لله الذي أولى ما أولى , وله الآخرة والأولى , لا يعزبُ عن علمِهِ شيء في ملكه وله ملك كل شيء , ليس كمثله شيء وهو السميع البصير , أحاط سمعُه بكلّ شيء , فسمع النملة التي قالت : (( ادخلوا مساكنكم )) , وسمع قول الهدهد الذي قال : ( وجئتك من سبأ بنبأ يقين )) , وسمع قول المُجادِلة التي جاءت تجادل في زوجها وتشتكي إلى الله , وأحاط بصره بكل شيء , فماتسقط من ورقة في الأرض أو في السماء إلا ويراها , ويرى ما عزُب عن الرآئين رؤيته , فسواء عنده من هو مستخفٍ بجنح الليل أو ساربٌ بالنهار , يرى رفيف جناح البعوضة , ويرى مافي الأرض ومافي السماء ومابينهما , وماغاب عمّن سواه هو به بصير وبه عليم , فتبارك من لا تدركه الأسماع ولا الأبصار وهو يدرك الأسماع والأبصار ,,,
الحمد لله الذي بذكره تطمئن القلوب , وتنشرح الصدور , وتطيب الأرواح , وتزكو النفوس , لأّنه الله وكفى بالله ولياً ونصيراً , لا إله إلاّ هو سبحانه , ربح من شهد بوحدانيته وأطاع أمره رغبةً في فضله وخوفاً من عقابه وعذابه , واجتنب نهيه توقيراً له وإجلالاً , وربح من استغفره فهو العفوّ الغفّار الذي لا يتعاظمه ذنب , ولا يغفر الذنوب صغيرها وكبيرها إلاّ هو سبحانه ,,,
الحمدُ للذي يستوجِب حمداً لحمده , ويستوجب مزيد حمدٍ لحمده على حمده , فهو الحميد الذي لا ينتهي حمده عند حد , ولا يأتي لنِعمه والآئه حصرٌ ولا عدّ ,,,
وصلّ اللهم وسلّم على من أرسلته للعالمين رحمة , ودفعت بمبعثه عن العباد النقمة , وأنزلت على قلبِهِ نوراً وهدىً ورحمة وشفاء للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلاّ خسارا , نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلّم , صاحب الخِلال الحميده , والصفات المجيدة , وصاحب الوجه الأنور , والجبين الأزهر , والذِّكر المحمود , والحوض المورود ,كلّ ثناء عليه هو دون ثناء ربه عليه : (( وإنّك لعلى خلقٍ عظيم )) , (( سبحان الذي أسرى بعبده )) , (( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب )) , (( مازاغ البصر وما طغى )) , (( ماكذب الفؤاد ما رأى )) , صلِّ اللهم عليه ما ذكرك الذاكرون , وتلا آيتك التالون , وصلّ اللهم عليه ما اتصلت عينٌ بنظر , وأذن بخبر , وما أورق في الجنّات الشجر , وطاب بالرياض الثمر ,,,,
يجدر بمن له ذرةٌ من عقل أنْ يسعى لنيل رضوان ربه الكريم الذي يبارك في القليل متى ما كان خالِصاً لوجهه , ويمحق الكثير متى ماكان له فيه شركاء , ويجدر بمن رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلّم نبياً ورسولاً أنْ يبادر إلى مافيه نفعُهُ ونفع من يستطيع من إخوانه المسلمين , وإنّ من خير الأعمال , الاشتغال بالقرآن قرآءةً وفهماً وتدبّراً ودعوةً إليه , ولأنّي ممّن تفضّل الله عليه بقرآءة القرآن الكريم وممّن انتفع به فشفاني الله به من سقم , ودفع به عني عظيم النّقم , سأحاول مستعيناً بالله وحده وحده وحده أنْ أدوّن بعض ما يرِدُ على خاطري من بركات هذا الكتاب الجليل العظيم راجياً ربي أنْ يتقبّل مني وإنْ لم أكنْ مستحقاً للقبول , وأنْ يبارك في ما أخلّفه وراءي من أحرفٍ أرجو من الله أنْ ينفع بها ولو مسلِماً واحداً , وإنْ كنتُ لا أثِق بنفسٍ ماعلمتُ منها إلاّ ما أرجو من الله ستره , ولا أثقُ بعلمٍ ما علمتُ منهُ إلاّ ما أرجو من الله أنْ يبارك لي فيه ويزيدني منه , فهو سبحانه العليم الحكيم ولولاه ما أحدٌ علِم ,,,
القرآن الكريم كلام الله الذي أنزله في ليلةٍ جعلها خير من ألف شهر , وأثاب بقرآءة حرفٍ منه عشر حسناتٍ ويضاعف الله لمن يشاء , فـ( الم ) يعطي الله بقرآءتها ثلاثين حسنة والله ذو الفضل العظيم , القرآن الكريم هو خاتم الكتب السماوية فبه انقطع خبر السماء , وتمّت النعمة , وأُكمِل الدين , لا نور لمن لم يستنِر بهِ , ولاهدى لمن لم يستهدِ بهِ , يكفي لبيان عظمتِهِ أنْ يُقال : قائلُهُ هو الله , ففضله على سائر الكلام كفضلِ الله ذي الفضل العظيم على سائر خلقِهِ , يستفتحُ بسورة الفاتحة , ويختتم بسورة النّاس , هو المعجِز على كل وجه , نزل به الروح الأمين على نبينا صلى الله عليه وسلّم ليكونَ من المنذرين , فهدى الله بهما من ضلالة , وشفى بهما من سقم , وأقام بهما الدين , ونفع الله بهما أعظم نفعٍ وأكبره , كل بركةٍ جاءت بعدهُ فمنهُما , وبركتهما موصولةٌ إلى الأبد , فيُدخلُ اللهُ برحمته من اتبعهما جنّتَهُ , ويُنجّي بفضله بهما من عذابه وسخطه , أشرف الكتب , وأبينها , وأوضحها حلالاً وحراماً , الهدى كلّه فيه , والخير كلّه منه , سبحان من رحم الخلق به , فهيّا إخوتي الفضلاء الأحبة لنتدبّر بعض آياتهِ لعل ربَنا أنْ يرضى عنّا ويُرضينا بما تقرّ به أعيننا في الدنيا والآخرة , مستعيذين بالله من الشيطان الرجيم ,,
سورة الفاتحة : أيّما عملٍ لا يستفتح باسم الله فلا بركة فيه , لذا بدأت هذا السورة الجليلة التي هي أم الكتاب بهذه البداية الربّانية البديعة : بسم الله , ولا يمكن أنْ تتصور كيف ستكون بركة هذه السورة وهذا الكتاب وهما يبهِجان روحك بهذا الاسم الطيب الجميل المبارك , ( بسم الله) , الذي من صفاته أنّه ( الرحمن الرحيم ) كلّ رحمة هي من رحمته , خلق مائة رحمة طباقاً كل رحمة كمابين السماء والأرض , وأنزل من رحمته مايتراحم به النّاس في دنياهم , ثم يرفع هذه الرحمة ليرحم بها عباده الذين سبقت لهم منه الرحمة والحسنى في الآخرة , حتى أنّ إبليس ليتطاول يوم القيامة واهماً أنّ الله ذا الرحمات الواسعة سيرحمه ولكن هيهات هيهات وقد لُعِنَ وطُرِد , هو الله الرحمن في أقداره , الرحمن في تدبيره , الرحمن في فضله , الرحمن في عذابه , (( فيمسك عذاب من الرحمن )) , فتعذيبه للمنافقين والكافرين في هذا مزيد رحمةٍ بالمؤمنين الذين صبروا في الدنيا على أذى هؤلاء المجرمين , (( أفنجعل المسلمين كالمجرمين )) حاشا لرحمة الرحمن أنْ يكونَ هذا , فالله هو الرحمن , حتى بالكافرين في الدنيا فهو يطعمهم ويسقيهم ويكسوهم ويشفيهم إذا مرضوا , ويهيء لهم المسكن وينزل عليهم من السماء ماء , كلّ هذا في الدنيا التي لا تزِن عنده جناح بعوضة , ولو وزنت جناح بعوضة ما سقاهم منها شربة ماء , هو الرحمن سبحانه فلم يترك الخلق سدى بل أرسل الرسل وأنزل الكتب , وأخبرهم بحقائق ماكان لهم أنْ يعرفوها إلاّ برحمته , فمن أين للإنسان أنْ يعرِفَ ربه لولا رحمتُه بإرسال الرسل وإنزالِ الكتبِ , ومن أين للإنسان أنْ يعرِف أنّ هناك جنةً ونارا , وأنّ هناك بعثاً ونشورا , وأنّ هناك جزاءً وحسابا , وأنّ هناك عدواً يوسوس في الصدور , ليردي حزبه وليصليهم جهنّم حسداً من عند نفسه الخبيثة الشريرة , ماكان لأحد أنْ يعرف كلّ هذا وغير هذا إلاّ برحمة الرحمن ,
(( الرحمن , علّم القرآن , خلق الإنسان , علّمه البيان )) فيارحمن الدنيا والآخرة ارحمنا برحمتك الواسعة وافتح علينا فتحاً من عندك إنّك الله السميع القريب المُجيب , وهذا الوصف الذي يجعلُك تطمئن وتسكن يُغريك بمواصلة القرآءة , فمن تقرأ كتابه هو الرحمن , إذن لن تجد في كلامه إلاّ ما ينفعُك , ولن تجد في كلامه إلاّ مايرفعُك , فاقرأ باسم ربك الذي خلق وأنت ممّن خلق , الآ يعلم سبحانه بمايصلح من خلق , بلى وهو الخلاّق العليم ,,,
اقرأ باسم ربك الذي خلقك فسوّاك فعدلك وهيأك لأنْ تكونَ لهُ عبداً ولن تُصلح لشيءٍ أبداً إلاّ لهذا , تأمل في فقرات ظهرك أليست مهيأة لتسجد بها , تأمل في مفاصلك أليست مفصلةً تفصيلاً محكماً لتكون خاضعاً عابداً لله , أليس في عينيك المبصرتين مايدلّك على أنّك عبدٌ لله وحسب , وفي أذنيك السميعتين أليس في خلقهما مايدّلك على أنّك مقهور وقاهرك هو الله , إذ لو شاء أصمّك حقيقة كما أصمّ غيرك أو أصمّك عن الانتفاع بهما كما أصمّ من لهم آذان لا يسمعون بها , زِدْ في القرآءة لمن أمرك بالقرآءة ( اقرأ باسم ربك الأكرم ) فهو الرحيم سبحانه الذي لو نزلت ذرة من رحمته على أكوانٍ من الذنوب والخطايا لدكّتها دكّاً , ولأزالتها من أساسها , فهو الذي كتب على نفسه الرحمة , نعم زِد في القرآءة لعلّ عينك تدمع فيرحمك مع من دمعت أعينهم صادقين فرحمهم , زد في القرآءة لعلّك تخشى فتُهدى إلى ربّك فيرضى وترضى , من تقرأ له طيّبَ روحك بهذين الوصفين العظيمين الذين ابتدأ بهما أول سورةٍ في كتابه المبارك الجليل (( الرحمن الرحيم )) ,,
وصف الله نبيه بأنّهُ بالمؤمنين رؤوف رحيم , ومن أين ستأتي رحمة نبينا صلى الله عليه وسلّم ؟؟ إنّها من الرحيم , أرحم رحيم , وأكرم كريم , الله الذي أرسل موسى وهارون عليهما السلام إلى من قال : أنا ربّكم الأعلى لعلّه يذّكر أو يخشى , وقال للمسرفين من عباده : ((قل ياعبادي الذين أسرفو على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله )) , وجعل اليأس من رحمته من أكبر الكبائر , ومن المهلكات في الدنيا والآخرة , فلا ينبغي للعبد إلاّ أنْ يحسن الظنّ بربه الرحيم , فهو سبحانهُ مالكٌ لكلّ شيء , مالكٌ للدنيا ومن فيها وما سواها , ومالِكٌ ليومِ الدين الذي وعد به وأخبر به , فهو لا شكّ واقع وآتٍ ولو أنكرهُ بعض من لهم قلوبٌ لا يفقهون بها , يوم الدين أو يوم الحساب أو يوم التغابن أو يوم القيامة أو يوم العرض الأكبر , الحاقة , الصاخة , الطامة الكبرى , يومٌ مهولٌ مهولٌ مهول , الولدانُ فيها يشيبون , الجبال تدكّ وتنسف وتسيّر , السماء تنشق , الأرض تزلزل , الوحوش تحشر , الكواكب تنتثر , النجوم تنكدر , الشمس تكوّر , القلوب يومئذٍ واجفة , الأبصار خاشعة , والوصف الرهيب لهذا اليوم لا ينتهي بهذا بل هناك من الأوصاف مالا يعلمها إلاّ الله سبحانه فاللهم ندعوك بدعاء نبيك يومئذٍ (( اللهم سلّم , سلّم ))
ألا تشعر أنّ من رحمتِهِ سبحانه إخبارك بأهوال ذلك اليوم , لِتشمِّرَ عن ساعديك وتشدّ مئزر العزيمة صادِقاً راجياً النجاة مع النّاجين , والفوز مع الفائزين الذين زحزحوا عن النّار وأدخِلوا الجنة , نعم والله العظيمِ أنّها رحمة تجلّت من لدن ربّ رحيم , فاستمسك بهذا الكتاب فهو الدليل في ظلمات هذه الحياة الموغِلة في الظلمة , يوم الدين يومٌ لا ينجو فيه إلاّ من آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ( الشرك ) , (( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)) , أولئك لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون , يوم الدين يومٌ يعضّ الظالِم فيه على يديه , يقولُ ياليتني اتخذتُ مع الرسولِ سبيلا , ياويلتى ليتني لم اتخذ فلاناً خليلا , يوم الدين تزوّج فيه النفوس , فالنفوّس المؤمنة مع المؤمنة , والفاجرة مع الفاجرة , والكافرة مع الكافرة , ويحشر المرء فيه مع من أحب , فاللهمّ إني أشهدك وأشهدُ ملائكتك وحملة عرشك وجميع خلقِك أنّي أحبّك وأحبّ نبيك صلى الله عليه وسلّم وأحبّ كلّ من أحبّك , فاحشرني بحبي لك واحشر والديّ وجميع المسلمين مع من تحبّ ياصمد , يوم الدين يومٌ لا يجزي والِدٌ فيه عن ولده شيئاً ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً , لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً , يوم الدين يومٌ مشهود , تجتمع فيه الحشود , أمَمٌ لا يعلمها إلاّ الله , حسابها كلّها على الله (( إنّ إلينا إيابهم , ثمّ إنّ علينا حسابهم )) فيضع الله فيه الموازين فلا تظلم فيه نفسٌ أبداً , حتى البهائم , يقتصّ للشاة الجلحاء التي لاقرون لها من الشاة القرناء التي نطحتها في الدنيا , فيُقال لها بعدئذٍ كوني تراباً , فتكون تراباً , فيتمنى الكافر ويصيح وجلاً خائفاً مرعوباً أشد مايكون الرعب , (( ياليتني كنتُ ترابا )) ولكنّ دعاء الكافرين في ضلال , يوم الدين يومٌ يسعدُ فيه أولياء الله غاية السعادة , سعادة لا أكبر منها إلاّ سعادتهم بنيلِ رضوانِ ربهم , ودخولِ جنّته , ولا أعظم من هذه وتلك إلاّ رؤية وجه من مرّغوا لعظمته الجباه , ولولا فضلُهُ مامرّغوا , ويقولون معترفين مقرّين بفضلِ ربهم عليهم (( الحمد لله الذي هدانا لهذا وماكنّا لنهتدي لولا أنْ هدانا الله )) فيُنادون (( أنْ تلكم الجنّة أورثتموها بماكنتم تعملون )) , يوم الدين يومٌ لا ريب فيه , فيا أيها العاقِل اللبيب ألا يجدُرَ بك أنْ توحّد (( مالِك يوم الدين )) وتقولُ بقلبٍ خاشع مؤمن مسلِم لله تعالى (( إياك نعبُدُ وإياك نستعين )) , طالباً منه العون والمدد وحدهُ دون سواه , فلا يملك يوم الدين إلا الله , ووالله ثم والله لا يملك نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا وليّ ولا أحدٌ أبداً مقدار ذرة من ملك يومئذٍ , ألم تقرأ قول الملك الحق عن ذلك اليوم وهو ينادي ذلك اليوم نداء يليق بعظيم جلاله (( لمن الملك اليوم )) فلا يجيب أحد فيجيب نفسه بنفسه (( لله الواحد القهّار )) , إنْ كان ذلك كذلك فاطلب الله وحده واسأل الله وحده واعبدِ الله وحده واستعن بالله وحده , وقل (( أهدِنا الصراط المستقيم )) فالله كريم جواد برّ رحيم يهدي من استهداه , ويثبّت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة , هذا الصراط الذي ضلّت عنه أممٌ كثيرة , وما أهتدى إليه إلاّ الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا , هذا الصراط ضلّت عنه اليهود الأشرار , فغضب الله عليهم , وضلّت عنه النصارى الحيارى , فأضلّهم الله وزادهم حيرة فهم لا يهتدون , وتختتم هذه السورة البديعة الكريمة العظيمة بدعاء خاشع حسدنا عليه أهل الكتاب , دعاء من وافق فيه دعاء ملكٍ من الملائكة غُفِر له (( آمين )) أي ياربّ استجب ,,,