إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذبالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِل له، ومَن يُضْلِل فلنْ تَجِدَ له وليًّا مُرشدًا.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا – صلَّى الله عليه وسلَّم – عبدُه ورسوله.
إنَّ الآيات والأحاديث الواردة في الكِبر وتحريمه، من شأْنها أن تجعَلَ المسلم – ذا القلب الحي والإيمان الصادق، والضمير اليَقِظ – يَقِف صاغرًا أمام عَظَمة الله وجلاله، ويندمُ خاشعًا ذليلاً على كلِّ ما فَرَط منه مِن كِبْر أو خُيَلاء، ويَضْرَع إلى الله تائبًا مُّنيبًا راجيًا إيَّاه أن يَرْحَمَ ضَعفه، ويَشفي مِن مرضِ الكِبْر نفسَه، ويَرزقه التواضُعَ للحقِّ، والتطامُن للخَلْق، وأنْ يُنيرَ له طريقَ الهدى، ويردَّه عن أسباب الهلاك والرَّدَى.
الله – تبارك وتعالى – يقول: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف: 146].
ويقول – تعالى -: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل: 22- 23].
ويقول – تعالى -: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 18 – 19].
ويقول – تعالى -: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83].
ويقول – تعالى -: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر: 35].
ويقول – تعالى -: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60].
ويقول – تعالى -: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء: 37 – 38].
فالآية الأولى تدلُّ على أنَّ قلبَ المتكبِّر وبَصيرته يعميهما الله – تعالى – فلا يَهتدي إلى الحقِّ أبدًا، وفي آيتي سورة النحل دَلالة على أنَّه لا يَستكبر عن الحقِّ إلا مَن لَم يؤمِن بالآخرة، ويَكفيه خِزْيًا أنَّ الله – تعالى – لا يُحبه، ومعلوم أنَّ الله لا يُكرم إلاَّ مَن أحبَّه ورَضِي عنه.
وفي آيتي لقمان إعلانٌ بُغْض الله لِمَن أدَّى به الكِبْرُ إلى الاختيال والفَخْر، وفي آية القَص حُكْمٌ على المتعالين على الناس بِحِرْمانهم من جنة الله ورحمته في الآخرة.
وفي آية غافر رقْم (35): دَلالة على أن قلوبَ المتكبِّرين مُغْلقة عن الحقِّ وعن النور؛ جزاءً من الله وعقابًا لهم.
أمَّا آية غافر رقْم (60)، فيها الْحُكم على المستكبرين عن الخضوع للحقِّ بجهنم، يُعَذَّبون فيها صاغرين ذليلين؛ لأنَّ معنى داخرين: صاغرون.
وفي آيتي الإسراء تَهَكُّم بالمتكبرين، وإشعارٌ لهم بضآلتِهم وتفاهَتِهم، فمَهْمَا استطالوا، فإنَّ فوقَهم ما لا يطولونه، ومَهْمَا دَقُّوا الأرض اختيالاً وانتفاخًا بالكِبْر، فلنْ يَخرقوها أو يؤثِّروا فيها نتيجة كِبْرهم، بل حَفْنة ترابٍ تُثيرها ريحٌ كفيلة بأن تَغْشى عيونَهم، وتَجعلهم سخريةً للناس.
أمَّا الأحاديث:
فقد أخرَج الإمام أحمد عن أبي سَلَمة بن عبدالرحمن بن عوف، قال: الْتَقَى عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهم – على المروة فتحدَّثا، ثم مَضَى عبدالله بن عمرو،وبَقِي عبدالله بن عمريبكي؛ ص (220)، فقال له رجل: ما يُبْكيك يا أبا عبدالرحمن؟قال هذا – يَعني: عبدالله بن عمرو – زَعَم أنَّه سَمِع رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: ((مَن كان في قلبه مِثقالُ حَبَّة من خَرْدَل مِن كِبْرٍ، كبَّه الله لوجْهه في النار))، ورُواة هذا الحديث رُواة الصحيح.
وأخْرَج مسلم والترمذي عن عبدالله بن مسعود- رضي الله عنه – عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مِثقالُ ذَرَّة من كِبْر))، فقال رجل: إنَّ الرجلَ يحبُّ أن يكونَ ثوبُه حسنًا، ونَعْلُه حَسَنةً، قال: ((إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمالَ، الكِبْر: بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناس)).
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قال الله – عزَّ وجلَّ -: الكبرياء رِدَائي، والعَظَمة إزاري، فمَن نازَعَني واحدًا منهما، قذفْتُه في النار))، ورُوِي بألفاظ مختلفة منها: (عذَّبْتُه) و(قصَمْتُه)، و(ألْقَيْتُه في جهنَّمَ)، و(أدخَلْتُه جهنَّمَ)، و(ألْقَيْتُه في النار).
الحديث أصْلُه في صحيح مسلم، وأخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حِبَّان في صحيحه وغيرُهم، وصحَّحه الألباني.
وعن حذيفة- رضي الله عنه – قال: "كنَّا مع النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – في جنازة، فقال: ((ألا أُخبركم بشرِّ عباد الله؟ الفظُّ المستكبر، ألا أُخبركم بخير عباد الله؟ الضعيف المستضعَف ذو الطِّمْرَيْنِ لا يُؤْبَه له، لو أقْسَمَ على الله لأَبَرَّه))"؛ رواه الإمام أحمد، ورُواته رُواة الصحيح، إلاَّ محمد بن جابر.
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((احتجَّتِ النار والجنة، فقالتْ هذه: يَدخُلُني الجبَّارون والمتكبِّرون، وقالت ْهذه: يدخُلُني الضُّعفاء والمساكين، فقال الله لهذه: أنتِ عَذَابي أعذِّبُ بكِ مَن أشاء، ورُبَّما قال: أُصيبُ بكِ مَن أشاء، وقال لهذه: أنتِ رحْمَتي أرحمُ بكِ مَن أشاء، ولكل واحدةٍ منكما مِلْؤُها))؛ صحيح الإمام مسلم.
وفي صحيح مسلم وسُن النَّسائي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاثة لا يُكَلِّمهم الله يوم القيامة، ولا يُزَكِّيهم، ولا يَنظر إليهم، ولهم عذابٌ أليم: شيخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كذَّاب، وعائلٌ مُستكبر)).
ومن الآثار:
قال أبو بكر الصِّدِّيق – رَضِي الله عنه -: "لا يَحْقِرَنَّ أحدٌ أحدًا من المسلمين؛ فإنَّ صغيرَ المسلمين كبيرٌ عند الله – تعالى".
وقال محمد بن الحسين بن علي: "ما دَخَل قلبَ امرئ شيءٌ من الكِبْر قطُّ، إلاَّ نقَص من عقْله بقَدْر ما دَخَل من ذلك؛ قلَّ أو كَثُر".
وقال النُّعمان بن بَشير على المنبر: "إنَّ للشيطان مَصَالِيَ وفُخوخًا، وإن مَصَالِي الشيطان وفُخوخَه البَطَرُ بأَنْعُم الله، والفَخْر بإعطاء الله، والكِبْر على عباد الله، واتِّباع الْهَوَى في غير ذات الله".
وسُئِل سليمان عن السيِّئة التي لا تَنفع معها حَسَنة، فقال: "الكِبْر".
وأمَّا الاختيال، فقد جاءتْ فيه نصوص كذلك من الكتاب والسُّنة والآثار، تستحقُّ الوقوفَ عندها، والتأمُّل فيها؛ ليتحسَّسَ كلُّ إنسانٍ نفسَه، ويحاول التخلُّصَ من هذا المرض الفتَّاك – إنْ كان عنده شيءٌ منه – وإليك الأدلة على ذلك:
قال الله – تعالى -: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء: 36].
وقال – تعالى -: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18].
الأدلة من السُّنة:
عن أبي هريرة- رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بينما رجلٌ يتبخْتَر في بُرْدَيْنِ وقدْ أعجبتْه نفسُه، خُسِفَتْ به الأرضُ، فهو يتجلْجَل فيها إلى يوم القيامة))؛ مُتفق عليه.
عن أبي هريرة- رضي الله عنه – يقول: قال النبي – صلى الله عليه وسلم – أو قال أبو القاسم – صلى الله عليه وسلم -: ((بينما رجلٌ يَمشي في حُلَّة تُعجبه نفسُه، مُرَجِّلٌ جُمَّتَه، إذ خَسَف الله به، فهو يَتجلْجَل إلى يوم القيامة))؛ صحيح البخاري.
عن ابن عمر أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا ينظر الله إلى مَن جرَّ ثوبَه خُيلاءَ))؛ صحيح مسلم.
ورُوِي أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَن تعظَّم في نفسه أو اخْتَال في مِشْيته، لَقِي الله وهو عليه غَضْبان))؛ البيهقي.
الأدلة من الآثار:
رأى ابن عمر رجلاً يجرُّ إزارَه خُيَلاءَ، فقال: "إنَّ للشيطان إخوانًا"، وكرَّرها مرتين أو ثلاثًا.
ويُرْوَى أن مُطَرِّف بن عبدالله بن الشِّخِّير رأى المهلب وهو يتَبَخْتَر في جُبَّة خَزٍّ، فقال: يا عبدالله، هذه مِشْية يُبغِضُها الله ورسوله، فقال له المهلب: أما تَعرفني؟ فقال: بل أعرفُك أوَّلُك نُطفة مَذِرَة، وآخِرُك جِيفة قَذِرة، وأنت تَحمل العَذِرَة، فمَضَى المهلب وتَرَك مِشْيته، وكان المهلب مَلِكًا.
ومرَّ بالحسن شابٌّ عليه بَزَّة حَسَنة، فدعَاه، فقال له: ابن آدمَ، مُعجَبٌ بشبابه، مُحِبٌّ لشمائله، كأنَّ القبرَ قد وارَى بدنَك، وكأنَّك قد لاقيتَ عمَلك، وَيْحَك داوِ قلبَك؛ فإنَّ حاجةَ الله إلى العباد صلاحُ قلوبهم، والاختيالُ دليلُ فسادها.
حقيقة الكبر والتكبُّر:
الكِبْر نوعان: باطن وظاهر:
فالباطن: خُلُقٌ في نفس الإنسان، والظاهر: أعمال تَصْدر عن الجوارح، وهذه الأعمال الظاهرة هي ثمرات لِمَا في الباطن، فالباطن هو الأصل، والظاهر فرْعٌ منه.
والكِبْر الباطني معناه: أن يرى المتكبِّرُ نفسَه فوقَ مَن يتكبَّر عليه، بحيث يَصير ذلك كالعقيدة عنده، فيفرح به، ويَرْكن إليه، ويعتزُّ في نفسه بسببه، وذلك هو خُلُق الكِبْر.
وعلى هذا، فالكِبْر يَستدعي توافر أمورٍ ثلاثة:
1- إنسان متكبِّر.
2- موجود يتكبَّر الإنسان عليه.
3- سبب لهذا الكِبْر.
فلا يُتَصَوَّر أن يوجَد إنسان مُتكبِّر، دون أن يوجَدَ مَن يتكبَّر عليه؛ لأنه يرى نفسَه فوقَه في صفات الكَمال، كما أنه لا يُعتبر مُتَكبِّرًا بمجرَّد استعظامه لنفسه؛ فقد يَستعظم نفسه، ولكنَّه يرى غيرَه أعظمَ منه، كما أنه لا يُعتبر مُتكبِّرًا بمجرَّد احتقاره غيرَه؛ فقد يَحتقر غيرَه، ويَحتقر نفسَه مثلَ احتقاره.
وإنما يوجَد الكِبر من أمورٍ ثلاثة، هي: أن يرى لغيره منزلةً ويَرى لنفسه مَنزلة، ويرى أنَّ منزلتَه فوقَ منزلة غيره، فبهذه الثالثة يَحصل خُلُق الكِبْر الباطني، ويُسَمَّى أيضًا: عِزَّة وتعظُّمًا، وتَعَالِيًا وانتفاخًا؛ حتى قال عمر بن الخطاب لرجل استأْذَنَه في وعظِ الناس بعد صلاة الفجر: "أخْشَى أن تَنتفِخَ حتى تَبْلُغَ الثُّرَيَّا".
ثم إنَّ هذه الحال التي تَحصل للإنسا حتى يَكبر في نفسه، إذا وُجِدتْ آثارُها في تصرُّفاته مع الغير، فإنَّه يُسَمَّى حينئذٍ مُتَكَبِّرًا، فالكبر: حالة نفسيَّة، والتكبُّر: أثَرٌ لهذه الحالة النفسية"؛ا.ه ملخَّصًا من "إحياء علوم الدين"؛ للغزالي.
وتجد الآيات التي ذُكِر فيها الكِبْر – وكذلك الأحاديثُ التي تَحَدَّثتْ عنه – يُذْكَر فيها أحيانًا الكِبْرُ بمعنى: الحالة النفسيَّة، وأحيانًا التكبُّر بمعنى: الآثار المرتبة على ما في النفس، وأحيانًا يُذْكَر الأمران معًا.
فمثال الأول: قوله – تعالى -: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر: 56].
ومثال الثاني: قوله – تعالى -: وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93].
ومثال الثالث: قول الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((مَن تعظَّمَ في نفسه واخْتَال في مِشْيَته، لَقِي الله وهو عليه غَضبان))؛ البيهقي.
فالآية الأولى: أن في نفوس الكافرين عَظَمةً لَم يَبْلغوها ولَم يَستحقُّوها.
والآية الثانية: بيَّنَتْ أن الكافرين أعْرَضوا عن آيات الله، وتكبَّروا عن قَبولها.
والحديث أوْضَحَ أنَّ مَن انتفخَتْ نفسُه كِبْرًا، وظَهَر أثَرُ كِبْره بالاختيال في مِشْيته، غَضِب الله – تعالى – عليه.
وأنواع التكبُّر ومظاهر الكِبْر وآثاره في الناس كثيرةٌ، لا يُمكن إحصاؤها، وهي تَختلف من فردٍ لآخَرَ، ومن بيئة لأخرى، ومِن عصْرٍ لعصر، وهكذا.
فالولد الذي يأْنَفُ أن يسمعَ لأبيه ويَخضع له – لأنه تعلَّم أكثرَ من أبيه – هو إنسانٌ عاقٌّ؛ بسبب التكبُّر على والده، ومأْواه النارُ، إلاَّ أن يَعْفُوَ عنه أبوه، ويَغْفِر له.
والمرأة التي تَأْنَفُ أن تَخضع لزوجها وتُطيعه وتَلين له – لأنها موظَّفة مِثْله، أو لأنها غنيَّة بمالها أو بجمالها – تُعتبر مُتَكَبِّرة على زوجها وعاصية له، ومُحَرَّمٌ عليها أنْ تدخُلَ الجنة؛ حتى تُعَذَّبَ في جهنَّمَ، أو يُسامِحَها زوجُها، أو يتفضَّل عليها ويَغفر لها.
والطالب الذي يتعالَى على أُستاذه – لغِناه أو مَنصب أبيه – هو مُتَكَبِّر، دَنِيء النفْس.
والرئيس الذي يَنظر إلى مَرْؤوسِيه نظرةَ احْتقارٍ، ويُعاملهم كعبيد – هو إنسانٌ مُتكبِّر لا يُساوي عند الله حشرةً بَغيضة.
والعالِم الذي ينتظرُ مِن الناس أن يَنْحَنُوا له، ويُقَبِّلوا يَدَيه، ويَحملوا حِذَاءَه – هو عالِمٌ رَكِبه الكِبْرُ، فصارَ أجْهلُ الناسِ خيرًا منه.
والمدير الذي يركب رأْسه مُتَّجِهًا في عمله إلى الأخطاء الضارَّة بالأمة، وإذا نُصِح أعْرَض وسَخِط على مَن نَصَحه – هو إنسانٌ دَمَّر الكِبرُ جانبَ الخير فيه؛ حتى صارَ لا يَستحقُّ الوَرق الذي عليه اسمه.
والذي يُوعَظُ فتأخذُه العِزَّة، أو يَمرُّ على الناس فيغضب لأنهم لَم يقوموا له، أو يدخل مكانًا عامًّا فيأْنَف منه؛ لأن الموجودين ليسوا على شاكِلَته، أو يأمر أمْرًا فيَكيل الشتائِمَ للمأورين؛ لأنهم لَم يُسْرعوا في تنفيذ أمره، كلُّ هؤلاء متكبرون، محرومون من أبرز صفات المؤمنين، وهي التواضُع.
إن المتكبِّر لو اخْتَرَق حُجبَ الغيب، وعَلِم أنَّ الله يُحبُّه ويُكرمه أكثرَ من غيره، فذَهَب ليَخْتال على الناس بذلك ويتكبَّر عليهم، لكان جزاؤه أنْ يَخسِف اللهُ الأرضَ به، ويجعله نَكالاً وعِبْرة لغيره، فما باله يتعالَى على الناس ويتكبَّر عليهم، وهو لا يَدري مصيرَه، ولا يعلم مآلَه عند الله؛ من نعيم أو عذاب، ومِن مَغفرة أو لَعْنة، ومن سعادة أو شَقاء؟!
ومن هنا نُدرِك قولَ الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المتكبرون يوم القيامة أمثالُ الذَّرِّ في صُوَر الرجال، يَغشاهم الذُّلُّ من كلِّ مكان، فيُسَاقون إلى سجنٍ في جهنَّمَ، يُقَال له: "بُولَس"، تَعلوهم نارُ الأنيار، يُسْقَون من عُصَارة أهل النار طينة الْخَبَال))؛ رواه الترمذي، وقال: حَسَنٌ صحيح، وحَسَّنه الحافظ في الفتْح.
والكِبر حين يَستشري في النفْس، ويَتمكَّن من قلب الإنسان، ويَملِك عليه حِسَّه وفِكْره، يكون أسوأَ ما يُصيب الإنسان من أمراض القلب؛ فما مِن خُلُق من الأخلاق المذمومة، إلاَّ وتَجِد صاحبَ الكِبْر مُتَّصِفًا به.
فهو لا يحبُّ للمؤني ما يحبُّ لنفسه، ولا يَقدر على التواضُع، ولا يتخلَّص من الْحِقد، ولا يتغلَّب على الغضب والغيْظ، ولا يستطيع دفْعَ الْحَسد عن نفسه، ولا يَقبل نصيحة ناصحٍ، ولا تعليم عالِم، ولا يعامل الناس إلاَّ بالازدراء والاحتقار، وإذا مَشَى اخْتَال، وإذا تكلَّم افْتَخَر، وإذا نصَح سَخِر من الناس وحقَّرهم، وإذا تَحدَّثَ تقعَّر في الكلام وتشدَّق، وإذا جالَسَ الناسَ غَضِب إذا لَم يكنْ له صدرُ المجلس، وأوَّلُ الكلام، وغايةُ التعظيم والاحترام.
فلذلك أخبر النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنه لا يدخُل الجنةَ مَن كان في قلبه مِثقالُ ذَرَّة من كِبْرٍ.
فقد حجَبَ الكِبرُ المتكبِّرين عن الجنة؛ لأنه حجَبَهم عن الأخلاق الحميدة، والصفات الْحَسنة -أعاذنا الله جميعًا منه، ورَحِمنا من آثاره.
أقسام الكِبر:
ينقسم الكِبْر إلى ثلاثة أقسام:
1- التكبُّر على الله.
2- التكبُّر على الرُّسل.
3- التكبُّر على الناس من غير المرسلين.
فالتكبُّر على الله: هو أفحش أنواع التكبُّر، وسببُه الجهلُ الْمَحض، مع تشبُّع النفْس بالطُّغيان، خصوصًا إذا الْتَفَّ حول المتكبِّر صُحْبة مُنْحَطَّةُ الأخلاق، تُسَوِّل له الانتفاخَ والتكبُّرَ على الله، وعلى رُسله، وعلى عباد الله؛ حتى تنالَ من ورائه مَغانِمَها، وتسلَّق على حسابه قمَّةَ المناصب؛ مُتَسَلِّطة ومُتَجَبِّرة، وظالمة ومُفْسِدة، وهذا واضِحٌ في الْحُكَّام والأغنياء، وذَوي المكانة والمناصب، إلاَّ ما رَحِم الله.
• فمن أمثلة التكبُّر على الله قولُ فرعون: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24].
وقول النمرود لإبراهيم – عليه السلام -: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: 258].
وقول كفار قريش حين أُمِروا بالسجود: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا [الفرقان: 60].
• ومن أمثلة التكبُّر على الرُّسل قولُ فرعون ومَن معه: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون: 47].
وقول كُفَّار العرب في شأْنِ الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم -: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: 21].
وقالوا: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31].
ويَعنون بذلك أنه: لو كان الله اختارَ رسولاً، فلماذا لَم يجعلْه واحدًا عظيمًا غنيًّا من مكةَ، كالوليد بن الْمُغيرة، أو من الطائف، كعروة بن مسعود الثقفي؟
• وأما أمثلة التكبُّر على الناس، فقد مرَّ ذِكْرُ الكثير منها، ومما جاء في القرآن منها قولُ إبليس في آدمَ – عليه السلام -: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12].
وهذا في أصْله تكبُّر على خَلْق الله، ولكنَّه جَرَّ إبليسَ إلى التكبُّر على الله – تعالى – وكثيرًا ما يقع ذلك؛ حيث يستكبرُ العبد على الله؛ لأنه رفَض النصيحة من عبدٍ من عباد الله.
ومعلومٌ أنَّ الكِبْر على الله كُفرٌ، والكبر على رُسل الله كُفرٌ، والكِبر على عباد الله كفْرٌ إنْ أدَّى إلى رفْض ما جاء عن الله، أو عن رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – من العِلْم والدِّين، والأوامر والنواهي والإرشادات، وإنْ لَم يؤدِّ إلى ذلك، وكان مجرَّد تَكَبُّر على الناس لا يعدوهم، فإنَّ هذا التكبُّر مُحَرَّمٌ، يستحق صاحبُه بسببه عذابَ الله، كما سبَق في الأحاديث.
وقد فسَّر النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – الكِبْرَ بالنوعين معًا:
النوع الذي هو كفرٌ، وهو التكبُّر على الله وعلى رُسله، والنوع الذي هو مَعْصية وليس كفرًا، وهو التكبُّر على الخَلْق، فقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((لا يدخُل الجنة مَن كان في قلبه مِثْقَال ذَرَّة من كِبْر))، قال رجلٌ: إنَّ الرجل يحبُّ أنْ يكون ثوبُه حسنًا ونَعْلُه حَسَنة، قال: ((إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال، الكِبْر: بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناس))؛ صحيح مسلم.
وكثيرٌ من الناس ضحايا للمتكبرين عليهم، المحتقرين لهم، والناظرين لهم بازدراءٍ واستخفاف، فالفقراء ضحايا صَلَفِ الأغنياء، والضُّعفاء ضحايا استبدادِ الحُكَّام والرؤساء، ومَن لا يعلمون ضحايا تَكَبُّر وغُرور العُلَماء، واليتامَى ضحايا أَنَفة الأوْصياء، والنساء ضحايا غَطْرَسة واستهتار الرجال الأقوياء، والشعوب ضحايا المتألِّهين وأنصاف الآلهة، ممن نفخَتْهم عَظَمةُ الْحُكم؛ حتى بذَروا في أرض بلادهم كلَّ أسباب الشقاء.
لقد كان الأجدر بالغَني أن يَعتبِرَ بقصص المستكبرين من أمثاله، وينظر ماذا فعَل الله بهم؛ فقد كان قارون غنيًّا لدرجة أنَّ الله قال فيه: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 76].
ولكنَّه لَمَّا طغَى وتكبَّر وأعْرَضَ عن المؤمنين – تطاولاً وتجبُّرًا – حدَثَ له ما ذَكَره الله – تبارك وتعالى – في قوله: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ [القصص: 81].
وكان الأولى بالْحُكَّام المتألِّهين، المستعبِدين للرعيَّة، المحتقرين للشعب – أن يَسْمَعوا القرآن وهو يقصُّ ما حَدَث لأمثالهم؛ حتى يعتبروا ويَزدجروا، فقد كان فرعون قمَّة في الطُّغيان في عصْره، وشرَّ مُتَكَبِّرٍ على شعْبه، أوْهَمَ شعْبَه أن كلَّ خيرٍ وفضْل ونعمة، هو مِن بَحْر جُوده وكَرَمه، فقال: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الزخرف: 51].
ونظَر إلى شعْبه – الناصح له – بازدراء واحتقار، فقال في موسى – عليه السلام -: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف: 52].
وصَل الأمر إلى ما ذَكَره الله – تعالى -: فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 23 – 24].
وكان الأجدر بالعلماء أن يتَّعِظوا بما حدَث للمتكبِّرين من أمثالهم؛ فيتواضعوا للمؤني، ويتأثَّروا بسيرة خَيْر النبين، ويشكروا الله على فضْله عليهم؛ حيث أعطاهم ما لَم يُعْطِ غيرَهم، ويتذكَّروا ما حدَث للمتكبِّرين من علماء بني إسرائيل مثل بلعام بن باعوراء وغيره؛ حيث قال الله فيهم: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة: 5].
أمَّا الذين يتكبَّرون بسبب العبادة أو الجمال، أو القوة أو الْحَسب والنَّسب، أو كثرة الأتْباع والأنصار، فإنَّ حُمْقَهم مَكشوفٌ، ومَقْت الناس لهم يَكفيهم، ولَمَقْتُ الله أكبر.
ونسأل الله أن يَحفظَنا من هذه الصفة الخبيثة؛ إنَّه وَلِيُّ ذلك والقادر عليه.
——————————————————————————–