"فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" (15)
ذكر الفدية لأنه تكرر في السورة ذكر الإنفاق والدعوة إليه وذكر القرض الحسن والبخل والذين يأمرون به فقال: "فاليوم لا يؤخذ منكم فدية" وقد كان بإمكانكم أن تفدوا أنفسكم في الدنيا بالإنفاق في سبيل الله فلم تفعلوا، والظاهر أن الفدية ههنا تعني المال وإن كانت الفدية عامة في كل ما يفتدى به فقد قال تعالى: "فدية من صيام أو صدقة أو نسك" البقرة 196
غير أن الذي يرجح معنى المال قوله "لا يؤخذ" ولم يقل (ولا تقبل) والذي يؤخذ هو المال وهو المناسب لجو السورة وما شاع فيها من ذكر للإنفاق والقرض الحسن والله أعلم.
وقال "لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا" مع أن المنافقين من الذين كفروا، ذلك أن المقصود ب "الذين كفروا" هم الكافرون من غير المنافقين وهم الذين أظهروا كفرهم ولم يستروه[1]، فلا تؤخذ الفدية لا من المنافقين ولا من سائر الكافرين الآخرين.
"مأواكم النار" أي هي دار إقامتكم والمأوى الذي تأون إليه، والمأوى يعني الملجأ والمكان الذي يحتمى به، فالنار ملجؤهم الذي يأون إليه.
*** "هي مولاكم"
أي هي التي تتولى أمركم فذكر المأوى والمولى، ذلك أن الشر إنما يأتيهم من جهتين: المأوى والمولى. فقد يكون المأوى سيئا غير أن المولى حسن، وقد يكطون العكس، أما هؤلاء فالنار مأواهم ومولاهم.
وقيل إن معنى "هي مولاكم": "هي أولى بكم … وحقيقة مولاكم محراكم ومقمنكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم.. ويجوز أن يراد هي ناصركم أي لا ناصر لكم غيرها، والمراد نفي الناصر على الثبات، ونحوه قولهم (أصيب فلان بكذا فاست الجزع) ومن قوله تعالى "يغاثوا بماء كالمهل". وقيل: تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار" [2]
ويجوز أن يكون اشتقاق (المولى) من الولْي وهو القرب، فيكون معنى مولاكم أي مكانكم عن قرب[3].
والمعنيان مرادان فهي تتولى أمرهم، وهي مكانهم عن قرب، ولم يرد في جهنم (هي مولاكم) إلا في هذا الموطن، وذلك لسببين والله أعلم: السبب الأول أنه ذكر في آية الحديد هذه أن المنافقين تربصوا وغرتهم الأماني حتى الموت فبعد طول الأمل والتربص الطويل كانت النار أقرب إليهم فهم كانوا يستبعدونها وهي أقرب إليهم وأدنى من آمالهم.
والسبب الآخر أن كل الآيات الأخرى التي ورد فيها "مأواه جهنم وبئس المصير" ونحوها إنما قيلت وهم في الدنيا، والدنيا لا تزال غير منقضية، وأما هذا القول فإنه قيل وهم في الآخرة وقد ضرب السور بينهم وبين المؤمنين، وأتاهم العذاب من قبله فالنار قريبة منهم فقال: "هي مولاكم".
*** "وبئس المصير"
وهذه أنسب خاتمة لهم، فقد كانوا في ترقبهم وأمانيهم ينتظرون المصير الحسن والمستقبل المشرق، فكانت لهم الظلمة والمصير الأسوأ.
إن هذه الآيات يتجلى فيها إكرام المؤمنين وإبعاد النصَب عنهم بخلاف المنافقين فإنما يتجلى فيها إرهاقهم وإهانتهم والتهكم بهم.
فقد قال في المؤمنين
1 (يسعى نورهم): ولم يقل (يمشي نورهم) للدلاة على الإسراع بهم إلى الجنة، وهذا إكرام فإن الإبطاء إلى السعادة ليس كالإسراع إليها، وفي الإسراع ما فيه من الإكرام.
2 أنه تعالى أسند السعي إلى النور ولم يسنده إليهم فلم يقل (يسعون) لأن السعي قد يجهدهم، فأسنده إلى النور فدل على أنه يسعى بهم، فهو لم يقل إنهم يمشون، لأن المشي قد يكون فيه إبطاء، ولم يقل يسعون، لأن سعيهم قد يكون فيه إجهاد، ولكنه أفاد السعي من ذكر سعي النور.
3 قال يسعى نورهم، فذكر الفاعل ولم يقل (يُسعى بهم) بالبناء للمجهول وحذف الفاعل فلا يُدرى أيسعون في ظلمة أم في نور، فذكر أن لهم نورا يسعى.
4 أضاف النور إليهم، وهذا فيه أمران: الأول الدلالة على أن هذا النور إنما هو نور المؤمن، وهو يدل على قدر عمله. فهو إهابة بالمؤمن ليعظم نوره ويكثره. ومن ناحية أخرى لم يقل (يسعى النور) فيجعله عاما يستضيء به المنافقون، فجعل لكل مؤمن نوره الذي يستضيء به فلا يشاركه فيه غيره، وهذا إكرام للمؤني وحسرة على المنافقين.
5 قال (بين أيديهم) ومعنى (بين أيديهم) أمامهم، غير أنه لم يقل (أمامهم) لأن الأمام قد يكون بعيدا عن الشخص، فقد تسأل عن قرية فيقال: هي أمامك، وقد يكون النور أمامك و لا تتمكن من الاستضاءة به لبعده فقال (بين أيديهم).
6 وقال (وبأيمانهم) ولم يقل (عن أيمانهم) لأن معنى بأيمانهم أنه ملتصق بالأيمان وليس مبتعدا عنها كما قال تعالى: "وما تلك بيمينك يا موسى17" طه، ولو قال (عن أيمانهم) لدل أنه متراخٍ عن أيمانهم أو منحرف عنها لأن (عن) تفيد المجاوزة، والباء تفيد الإلصاق.
7 قال (بشراكم)، ولم يقل (يقال لهم بشراكم) لأنه أراد ن يجعل المشهد حاضرا ليس غائبا، يُسمع فيه التبشير ولا يُنقل.
8 وأضاف البشرى إلى ضمير المخاطبين لتنال البشرى كل واحد، ولم يقل (البشرى جنات) وهو إكرام آخر.
9 وقال (اليوم) للدلاة على قرب البشرى، وأنها ليست من الوعد البعيد الوقوع، والبشرى كلما كانت أقرب كانت أحب وأدعى إلى المسرة.
10 وقال (جنات) ولم يقل (جنة) للدلاة على أن لكل منهم جنة أو أكثر كما قال تعالى: "ولمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى" النازعات.
11 قال: "تجري من تحتها الأنهار" ولم يقل (فيها أنهار) وذلك للدلاة على أنها جارية وليست راكدة، والركود مظنة الأسون، هذا إضافة إلى التمتع بمشهد الجري، ولذلك عندما لم يذكر الجري في قوله: "فيها أنهار من ماء15" محمد. قال (غير آسن) لينفي عنها صفة الأسون، ولما ذكر الجري لم يذكر ذلك لأنه لا حاجة إليه.
12 وقال (الأنهار) ولم يقل (نهر) للدلاة على كثرة الأنهار.
13 قال (خالدين) وهي بشرى أخرى، وقال (فيها) للدلاة على أن الخلود في الجنات وليست الجنة مرحلة أو مكانا ينتقلون منه إلى ما هو أقل سعادة.
14 قال (ذلك هو الفوز العظيم) ولم يقل (ذلك فوز عظيم) وإنما عرف الفوز بأل للدلاة على القصر وعلى أنه لا فوز أعظم منه، ثم جاء بضمير الفصل للزيادة في التوكيد.
ثم إن الأمر يعظم ويكبر بعظم قائله فإن الفوز الذي يذكره طفل أو رجل من ضعفة الناس يختلف عن الفوز الذي يذكره قائد أو ملك. فكيف وقد ذكره ملك الملوك وصفه بالعظمة وقصره وأكده؟
15 ذكر أن المنافقين يقولون (انظرونا) ولم يقولوا (انتظرونا) فإنهم يدركون أنهم لا يسعهم الانتظار، وإنما طلبوا منهم مهلة قصيرة لينظروهم أي ينتظروهم. وفي هذا دلالة على الإسراع بهم إلى الخير والسعادة، فإن الذي يسرع به إلى الخير والسعادة أكرم من الذي يبطأ به.
16 ثم قال (نقتبس) ولم يقل (نقبس) والاقتباس أكثر من القبس، وذلك يدل على عظم النور الذي عندهم.
17 قال (من نوركم) ولم يقل (من النور) وهذا تكريم آخر فإن النور نورهم.
قال (قيل ارجعوا) ولم يقل (قالوا) لأنه أراد ألا ينشغلوا بما لا فائدة فيه من الكلام فتكلم الملائكة أو غيرهم بالنيابة عنهم ولم يشغلوهم بالكلام هما هو أهم، ولم يرهقوهم بكثرة القيل.
19 قال (فضرب بينهم بسور) فحجزوهم عن أولئك السائلين المنافقين.
20 ثم قال (له باب) للدلاة على أنهم غير محتجزين فيه، وإنما ينفذون منه إلى مرادهم.
21 ثم قال (باطنه فيه الرحمة) وهو تكريم آخر وكيف لا وهم في رحمة الله؟
أما دلالتها على إهانة المنافقين وإرهاقهم فهو أو ضح ما يكون:
1 فقد ذكر أن المنافقين والمنافقات يطلبون من المؤمنين أن ينظروهم للاقتبس من نورهم، وهذا يدل على أنهم في ظلمة، وقد قيل إنهم أعطي لهم نور ثم انطفأ[4]
من باب إهانتهم وخديعتهم والاستهزاء بهم كما كانوا يخادعون ويستهزئون في الدنيا. قال تعالى: "إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " النساء 142
جاء في تفسير ابن كثير: "ويقول المنافقون للذين آمنوا "انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا" وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين حيث قال "يخادعون الله وهو خادعهم" فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فيفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب"[5]
2 وقال (قيل ارجعوا) ولم يذكر أن المؤمنين ردوا عليهم، فبنى الفعل لمجهول، وقيل إن القائل هم الملائكة، فهم الذين تولوا الرد عليهم، أما المؤمنون فلا يعنيهم هذا الطلب وإنما هم مشغولون بما هو أهم، وهذا إهانة للمنافقي أن يطلبوا من المؤمنين فلا يجيبوهم وإنما يجيبهم آخرون.
3 وقال (ارجعوا) وهو إهانة أخرى.
4 وقال (وراؤكم) وهو إما أن يكون ظرفا مؤكدا أو يكون اسم فعل بمعنى (ارجعوا) فيكون كأنه قيل لهم: ارجعوا ارجعوا، وهو إهانة ظاهرة.
5 قال (فالتمسوا نورا) وهم يعلمون أن ليس ثمة نور، وهو من باب الاستهزاء بهم.
6 وقال (فضرب بينهم بسور له باب) فحجزوهم عن الحاق بالمؤمنين وهو إهانة ظاهرة.
7 وقال (وظاهره من قبله العذاب) وهي جهتهم.
8 وقال (ينادونهم ألم نكن معكم) فذكر أنه يرفعون أصواتهم من وراء السور ينادون المؤمنين ليلتحقوا بهم، ولكن حيل بينهم وبين ما يريدون.
9 وفي رد المؤمنين عليهم إهانات متعددة، فقولهم لهم: إنكم فتنتم أنفسكم، وتربصتم، وارتبتم، وغرتكم الأماني، وغركم بالله الغرور، كل خصلة منهن إهانة وتبكيت.
10 قوله تعالى: "فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا"و "مأواكم النار" "هي مولاكم" "وبئس المصير" كله إهانات وإخبار لهم بما سيلاقونه من سوء العاقبة والمنقلب، نعوذ بالله.
" أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ الَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
*** "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ"
(يأني) مضارع (أنى) ومعنى (أنى) حان ونضج، و(ألم يأن للذين آمنوا) معناه ألم يحن لهم ذلك؟
"أن تخشع قلوبهم"
أسند الخشوع إلى القلب، والخشوع أمر مشترك بين القلب والجوارح، فهو يسند إلى الأبصار وإلى الوجوه وإلى الأصوات فيقال: بصر خاشع وجه خاشع وصوت خاشع، كما يسند إلى الشخص كله فيقال: رجل خاشع، أي خاضع، كما قال تعالى: "وكانوا لنا خاشعين90" الأنبياء، وقال "وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل45" الشورى.
والخشوع هو الخضوع والخشية والذل، فخشوع القلب خضوعه وخشيته وجله وتذله، فطلب من المؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، وذكر الله عام، وما نزل من الحق هو القرآن، وكل منهما مدعاة إلى الخشوع والخشية.
فذكر الله مدعاة إلى الخشوع والخشية كما قال تعالى: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم2" الأنفال، وقال: "وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" الحج.
والقرآن مدعاة إلى الخشية والوجل كما قال تعالى: "إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا. ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا. ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا" الإسراء، وقال: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله" الحشر، وقال "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله" الزمر.
والقرآن ذكر وقد سماه الله ذكرا، فقد حكى عن الكفار قولهم: "أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري10" الطلاق، وقال: "وهذ ذكر مبارك أنزلناه" الأنبياء.
فإذا كان علماء أهل الكتاب يزيدهم القرآن خشوعا، وإذا كان الجبل يتصدع منه خاشعا لله فكيف لا يخشع قلب المؤمن له؟
لقد ذكر ثلاثة أمور كل منها يستدعي الخشية:
1 كون المخاطبين مؤمنين وهذا يستدعي الخشية.
2 ذكر الله وهو مدعاة إلى الخشية.
3 ما نزل من الحق أي القرآن وهو مدعاة إلى الخشية.
وهذه الآية نظير قوله تعالى: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون" فقد ذكر فيها ذكر الله وذكر آياته.
وقد تقول: إذا كان المراد خشوع القلب فلم لم يقل مثلا: (ألم يأن لقلوب المؤمنين أن تخشع لذكر الله) أو (ألم يأن تخشع قلوب المؤمنين لذكر الله) ونحو ذاك وقال "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله"؟
والجواب أن ذلك لجملة أسباب منها: أنه حذرهم من أن يكونوا كالذين أوتوا الكتاب وليس كقلوب الذين أوتوا الكتاب، فقال "ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب" فناسب أن يكون الكلام على المؤمنين بمقابل الذين أوتوا الكتاب.
ومنها أنه قال "وكثير منهم فاسقون" وهذا وصف للأشخاص لا للقلوب فأراد أن يحذرهم من أن يكونوا كالذين أوتوا الكتاب في قسوة القلوب وفسق كثير منهم، فناسب قوله "ألم يأن للذين آمنوا" أن يكون بمقابل الذين أوتوا الكتاب.
ومها أنه ذكر المؤمنين وقلوبهم، وذكر أهل الكتاب وقلوبهم فناسب ذلك ألطف مناسبة. وقال (أوتوا الكتاب) ولم يقل آتيناهم الكتاب لأنه في مقام الذم لهم، ومن سمة التعبير القرآني أنه إذا ذم أهل الكتاب بنى الفعل للمجهول فقال (أوتوا الكتاب) وإذا مدحهم أسند الفعل إلى نفسه تعالى فقال "آتيناهم الكتاب".
*** "فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ"
بين أن طول الأمد يقسي القلوب فحذرنا من أن نكون كذلك فإنه ينبغي أن نتعهد قلوبنا وألا ندع للقسوة سبيلا إليها، وفي ذكر الله وما نزل من الحق غناء وكفاية لحياة القلوب وخشوعها.
وأسند القسوة إلى القلوب وذلك بمقابل إسناد الخشوع إلى القلوب أيضا، وهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه لم يسند القسوة في القرآن الكريم إلا للقلوب ولم يسندها إلى غيرها، قال تعالى: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة" البقرة، وقال: "ولكن قست قلوبهم" الأنعام، وقال: "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية" المائدة، وقال: "فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله" الزمر، وغيرها، وذلك أنه إذا قسا القلب قسا صاحبه وإذا خشع القلب خشعت الجوارح.
وقد تقول: ولم قال "كالذين أوتوا الكتاب من قبل" فذكر (من قبل) ولم يقل (كالذين أوتوا الكتاب فطال عليهم الأمد) من دون أن يذكر "من قبل"؟
والجواب أنه لو قال ذلك لم يدل على أن الأولين قست قلوبهم، بل لربما دل على أن المعنين هم المعاصرون لزمن الرسول، فلما قال "من قبل" دل على أن آباءهم الأولين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم فما بالك بهؤلاء وقد تطاول عليهم الزمن؟ فذمهم وذم أسلافهم بخلاف ما لو حذف "من قبل"
ثم إنه حذرهم من أن يكونوا كأولئك الأولين فما بالك بالآخرين؟ فيكون التحذير عن التشبه بهؤلاء أشد وأشد.
*** "وكثير منهم فاسقون"
ذكر أن كثيرا منهم فاسقون خارجون عن طاعة الله، ومجيء هذا القول بعد قوله "فقست قلوبهم" يدل على أن قسوة القلب من أيباب الفسوق ودواعيه، وبالمقابل يكون خشوع القلب من أسبابا لطاعة ودواعيها.
وقد تقول: لقد قال في أكثر من موطن إن أكثرهم فاسقون بصيغة اسم التفضيل، وقال ههنا "كثير منهم فاسقون" فما حقيقة الأمر؟ أإن كثيرا منهم فاسقون أم إن أكثرهم فاسقون؟ وما السبب في هذا الاختلاف في التعبير؟
والجواب أنه لا تناقض بين قوله "إن كثيرا منهم فاسقون" وقوله "إن أكثرهم فاسقون" فقوله "إن أكثرهم فاسقون" يعني أن كثيرا منهم فاسقون، وإنما التناقض يكون لو قال (إن قليلا منهم فاسقون) أو (إن أقلهم فاسقون). فقولك (محمد أفضل الناس) لا يناقض قولك (إنه فاضل) وقولك (هو أعلم الناس) لا يناقض قولك (هو عالم) ولكنه يناقض قولك (هو أجهل الناس) أو هو جاهل.
أما لماذا عبر عن ذلك مرة بقوله (كثير) ومرة ب (أكثر) فهذا ما يقتضيه سياق كل تعبير، فإنه يعبر ب (أكثر) إذا كان السياق في تعداد أسوأ صفاتهم والإطالة في ذكرها بخلاف الوصف ب (كثير) فإنه لا يبلغ ذلك المبلغ، وإليك إيضاح ذلك
لقد جاء الوصف ب (أكثر) في موضعين وهما قوله (وإن أكثركم فاسقون59) المائدة، وقوله (وأكثرهم الفاسقون110) آل عمران، وبالنظر في سياق كل من الآيتين يتضح ما ذكرته.
فقد جاء في سورة المائدة: " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا الَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِالَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ الَّهِ مَنْ لَعَنَهُ الَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَالَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)" المائدة
ويستمر في تعداد مساوئهم إلى الآية الخامسة والستين (57 65) فناسب قوله (وإن أكثركم فاسقون)
وكذلك الأمر في آل عمران فقد ذكر أهل الكتاب ومساوئهم وأعاد ذكرهم وذكرها أكثر من مرة، من ذلك ما ذكره من الآية الخامسة والستين إلى الآية الثامنة وين، من الآية الثامنة والتسعين إلى الآية الواحدة بعد المائة، عدا المواطن الأخرى المنتشرة في السورة، فناسب أن يذكر ذلك بقوله "وأكثرهم الفاسقون" والله أعلم.
*** اعْلَمُوا أَنَّ الَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
أمرنا بأن نعلم هذا الأمر أي أن الله هو الذي يحي الأرض بعد موتها وأنه ما كانت لتحيا لولا أن الله يحيها، فهي لا تحيا من الماء بنفسها ولا أن ذاتا أخرى دونه أو معه قادرة على ذلك فالله هو الذي يحي الأرض بعد موتها.
وجه ارتباط الآية بما قبلها ظاهر من جهتين؛ ذلك أنها تمثيل لأثر الذكر والقرآن في القلوب فإنه يحيها كما يحي الغيث الأرض[6]
جاء في (روح المعاني) أن قوله "اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها" "تمثيل ذكر استطرادا لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير من القساوة"[7]
ومن جهة أخرى إن هذه الآية تدل على بعض الأموات وأن الله سيحيهم ويبعثهم كما يحي الأرض. وقد مر قبل هذه الآية ذكر الآخرة وجملة من مشاهدها. وهي كما ترتبط بما قبلها من جهتين ترتبط بما بعدها من جهتين أيضا.
فإنه ذكر بعد هذه الآية أن المصّدقين والمصّدقات يضاعف لهم، وذلك شأن الأرض التي تحيا بالغيث فإنها تضاعف ما يزرع فيها، وقد ذكر الله ذلك في مكان آخر فقال: "مثل واسع عليم
كما إنه ذكر الآخرة بعدها وطرفا من أحوالها، فارتبطت الآية بما قبلها وما بعدها، والله أعلم.
جاء في (تفسير الرازي) أن قوله هذا "تمثيل والمعنى أن القلوب التي مات بسبب القساوة فالمواظبة على الذكر سبب لعود حياة الخشوع إليها كما يحي الله الأرض بالغيث، والثاني أن المراد من قوله "يحي الأرض بعد موتها" بعث الأموات فذكر ذلك ترغيبا في الخشوع والخضوع وزجرا عن القساوة"[8].