تكلمت في مرة سابقة عن مشكلة الأفكار السلبية التي تعتمر في رؤوسنا وعلاقتها بالمزاج السلبي، ومعاناتنا مع الأحداث الصغيرة والكبيرة، وحيث إن كل فرد على وجه الأرض يمر في كل مرحلة من مراحله الحياتية بخبرات وأحداث صغيرة أو كبيرة، سلبية أو إيجابية . من المهم أن نفهم كيف يتعامل الإنسان مع هذه الأحداث من الناحية النفسية.
إن الخبرات التي تزودني بها تفاعلاتي اليومية لعيادة علم النفس العيادي والعلاج النفسي السلوكي (بلا أدوية) الذي أقوم به مع شريحة واسعة جداً من مجتمعنا صغاراً وكباراً، هذه الخبرات تعلمنا بوضوح أن كيفية تعامل الناس مع الأحداث في أحيان كثيرة تكون أكثر أهمية من الناحية النفسية من الحدث نفسه.
من الحالات التي لا أنسى ذكرها كمثل عيادي وطالما أذكرها في محاضراتي عن علاج النفس السلوكي حالة الطبيبة ذات الثلاثين عاماً والتي تنتمي للأسرة ثرية جداً. كان وضعها الصحي عموما جيداً، وكانت تعاني من الاكتئاب، ولهذا أتت لعيادتي من أجل العلاج النفسي السلوكي (بلا دواء) باختصار شديد إن هذه السيدة قد أنعم الله عليها بكل ما تريده المرأة العادية من أسرة ومال وجمال وذكاء وعلاقات اجتماعية، وتقدير من الناس. لكنها ضمن تناولها للأحداث التي مرت بها خلال فترة قريبة أثناء العلاج النفسي السلوكي معي ذكرت أن سقف الغرفة يسرب ماء بسبب الأمطار الغزيرة. علماً أنها تسكن في قصر ضخم جداً.
لقد بكت هذه السيدة حينها بكاء مراً وهي تحدث نفسها بأنها في كارثة (حتى السقف لا يحميني من المطر)، فالأمطار الغزيرة التي نستبشر بها خيراً دائماً ، وتسريب السقف للماء، هما الحدثان اللذان وقع لها (كما يقع لملايين من البشر مثلها). لكن بكاءها كان طريقة التعامل مع هذا الحدث.
سيقول القراء ما أتفه هذه العقلية، وإنها (دلوعة) إلى الحد الذي لا تتحمل قليلاً من الماء من السقف. بينما يعاني (والكلام للقراء) ملايين الناس من المطر ومشاكل السكن. لكن لا تصل بهم الحال إلى حد البكاء. هذا صحيح، لكن المهم أن نفهم الحالة النفسية والآلية الذهنية التي تسبب الحزن والاكتئاب عند ملايين من الناس. بسبب طريقة تفاعلهم وتعاملهم مع الأحداث اليومية المهمة والعادية.
إن ملايين من الناس ينحون منحى اعتادوا عليه في تفسيرهم للأحداث، هذا المنحى هو المنحى السلبي في تفسيرهم للأحداث. بلغة أخرى فإنهم يفسرون ويتوقعون الجوانب السلبية في كل الأحداث، فعلى سبيل المثال أن الذي يحصل على 98% في نتائج الاختبارات النهائية (بغض النظر عن المرحلة الدراسية) سيفسر النتيجة على أنها كارثة؛ لأنه لم يحصل على 10%! . أو السيدة التي تقوم بتجهيز وتقديم وليمة ناجحة جداً (تبيض الوجه) ويأتي زوجها ليشكرها ويقدر تعبها وعملها، ولكنه يفاجأ بأنها حزينة ومكتئبة وغير راضية عن عملها، لأن الصنوبر الذي وضعته في الحلويات كان صنوبراً غير مناسب للحلويات الخمس التي جهزتها!. وهكذا دواليك..
هذه الأمثلة اليومية والعيادية ليست غريبة أو محض خيال. بل هذا النمط النفسي السوداوي هو مما يعانيه ملايين من الناس في العالم ، وقد تصل بهم الحالة إلى درجة من الاكتئاب.
إن البديل النفسي الصحي هو أن نضع نقاطاً إيجابية لكل ما يحدث لنا إلى جانب بعض النقاط السلبية. فيجب أن نتعود ونعلم أنفسنا (وهنا أركز على كلمة نتعلم لأنها مهارات يجب اكتسابها من جديد).. إذاً يجب أن نتسابق مع الأفكار السلبية لنضع أمامها أفكاراً إيجابية تفسر لنا ما حدث صغر أو كبر.
فيجب إتباع نظام جديد وقاس في البداية. بمعنى أن تكون هناك آلية جديدة تتعامل بصورة إرادية مع كل الأحداث بلا استثناء(السلبية والإيجابية صغرت أم كبرت). وحاولوا أن تتوقعوا بعض هذه الأحداث، وأن تجدوا جوانب إيجابية، وحولوا مرة أخرى أن تستمروا بهذه العادة السلوكية الجديدة، وان لا تهملوها بعد فترة وجيزة.
يتطالب الأمر منكم وألا المرونة في التفكير، وشيئاً من الإبداع في تناول الحدث. إضافة إلى الإكثار من التنوع: هذا التنوع الذهني في اختلاف التفسيرات الإيجابية سيزيد من مرونة التفكير وتقليل الأفكار السلبية تدريجياً.
من العادات السلوكية الجديدة التي أتحدث عنها هي تجنب السلبية، ففي أحيان ليست قليلة تمر عليَّ حالات في العادة يؤسفني تفكيرها السلبي، إذ بعد عناء وتعب طويلين أشرح لهم دور الأفكار وعلاقته بالانفعالات والمزاج والسلوك. بعد كل هذا أجد من يقول لي (لكن يا دكتور ما تقدر تساعدني أو ما في أدوية!) فبعض الناس وكنتيجة حتمية لثقافتنا ومجتمعنا السلبيين، ينشأ هؤلاء على أن الحلول لمشكلاتهم النفسية تأتي من غيرهم من دون عناء أو جهد منهم، علينا أن نتعلم أن نربي أنفسنا وأولادنا على تحمل مسؤولية أنفسنا، ومسؤولية تغيير الذات (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).