ولكن الحق جل في علاه يخبرنا أن هذا الأساس الذي يرتكز إليه البشر في معرفة الأحياء والأموات قد جانبهم فيه بالصواب, ثم هو يرشدنا سبحانه وتعالى عن المعيار الذي تستقيم به الأمور وتنضبط به التصورات والمفاهيم عن عالم الأحياء وعالم الأموات كي ترشد البشرية وتستقيم على الدرب بغير شذوذ ولا انحراف فكري أو عقدي.
فليس يعد في عالم الأحياء من يقوم بالوظائف الحيوية فقط, فإذا ما فقدها انجر إلى عالم الأموات وحُسب من بينهم.. إنما الحياة الحقة هي في الاستجابة لله ولرسول، والموت هو في الإعراض والصدود عن دعوة الله سبحانه ورسله الكرام، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ الَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(الأنفال:24)
فهنا أخبر سبحانه وتعالى أن ما يأمر به ويدعو إليه فيه حياة القلوب التي تترتب عليها الحياة الكاملة السعيدة للأبدان في الدنيا والآخرة، قال ابن كثير في تفسيره: قال السُّدِّيّ: "لِمَا يُحْيِيكُمْ" أي في الإسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر, ويقول السعدي في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:"يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة للّه ولرسول، أي: الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه.. وقوله: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وصف ملازم لكل ما دعا الّه ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلب والروح بعبودية الّه تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام".
ويقول صاحب الظلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يدعوهم إلى ما يحيهم، إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة، وبكل معاني الحياة، فهذا الدين منهج حياة كاملة، لا مجرد عقيدة مسترة، منهج واقعي تنمو الحياة في ظله وترقى, ومن ثم هو دعوة إلى الحياة في كل صورها وأشكالها, وفي كل مجالاتها ودلالاتها, والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية "لِمَا يُحْيِيكُمْ".
فالآية تضمنت أمورا عظيمة منها أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله, كما يقول ابن القيم في الفوائد, فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات, فالحياة الحقيقة الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا, فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم الأموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول, فان كل ما دعا إليه فيه الحياة, فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة, وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول.
فالموت الحقيقي للجنس البشري جد مختلف عن بقيه الكائنات, فهو عندهم في فناء الروح وعنده في موت القلب عن الاستجابة للدعوة الربانية, والحياة الحقيقية لهذا الجنس البشري في حياة القلوب واستجابتها للأوامر الشرعية يقول تعالي: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ الَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (الأنعام:36)
يقول ابن كثير:قوله"وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ الَّهُ" يعني بذلك الكفار؛ لأنهم موتى القلوب، فشبههم الله بأموات الأجساد وهذا من باب التهكم بهم، والازدراء عليهم.
فالحق في علاه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ (لدعوتك، ويلبي رسالتك، وينقاد لأمرك ونهيك) الَّذِينَ يَسْمَعُونَ" بقلوبهم ما ينفعهم، وهم أولو الألباب والأسماع, والمراد بالسماع هنا -والحديث للسعدي في تفسيره- سماع القلب والاستجابة، وإلا فمجرد سماع الأذن، يشترك فيه البر والفاجر, فكل المكلفين قد قامت عليهم حجة الله تعالى، باستماع آياته، فلم يبق لهم عذر، في عدم القبول, "وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ الَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ" يحتمل أن المعنى، مقابل للمعنى المذكور, أي: إنما يستجيب لك أحياء القلوب، وأما أموات القلوب، الذين لا يشعرون بسعادتهم، ولا يحسون بما ينجيهم، فإنهم لا يستجيبون لك، ولا ينقادون.
وفي دلالة موحية عن معنى الحياة والموت وارتباطهما بالاستجابة أو الإعراض والطواعية أو الصدود لأوامر الله، يقول سبحانه وتعالي: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام:122)
فهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤن الذي كان ميتا، أي: في الضلالة، كما يقول ابن كثير, هالكا حائرا، فأحياه الله، أي: أحيا قلبه بالإيمان، وهداه له وفقه لأتباع رسله، {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} أي: يهتدي به كيف يسلك، وكيف يتصرف به, والنور هو: القرآن، كما رواه العَوْفي وابن أبي طلحة، عن ابن عباس, وقال السُّدِّي: الإسلام, والكل صحيح…"كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ" أي: الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة، "لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا" أي: لا يهتدي إلى منفذ، ولا مخلص مما هو فيه.
يقول السعدي: قوله تعالى: "أَوَمَنْ كَانَ" من قبل هداية الله له "مَيْتًا" في ظلمات الكفر، والجهل، والمعاصي، "فَأَحْيَيْنَاهُ" بنور العلم والإيمان والطاعة، فصار يمشي بين الناس في النور، متبصرا في أموره، مهتديا لسبيله، عارفا للخير مؤثرا له، مجتهدا في تنفيذه في نفسه وغيره، عارفا بالشر مبغضا له، مجتهدا في تركه وإزالته عن نفسه وعن غيره.. أفيستوي هذا بمن هو في الظلمات، ظلمات الجهل والغي، والكفر والمعاصي "لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا" قد التبست عليه الطرق، وأظلمت عليه المسالك، فحضرها الهم والغم والحزن والشقاء.. فنبه تعالى العقول بما تدركه وتعرفه، أنه لا يستوي هذا ولا هذا كما لا يستوي اليل والنهار، والضياء والظلمة، والأحياء والأموات.
وهذا المعنى نراه جليا واضحا في قول الله تعالي: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ*وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ* وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ*وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ الَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ* إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ}(فاطر22:19)
"وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ" يعني كما قال البغوي في تفسيره:المؤمنين والكفار. وقيل: العلماء والجهال. "إِنَّ الَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ" حتى يتعظ ويجيب، "وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ" يعني: الكفار، شبههم بالأموات في القبور حين لم يجيبوا.
ويقول ابن كثير: كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة، كالأعمى والبصير لا يستويان، بل بينهما فرق وبون كثير، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور، كذلك لا تستوي الأحياء ولا الأموات، وهذا مثل ضربه الله للمؤني وهم الأحياء، ولكافرين وهم الأموات.. فكما لا يسمع وينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم، وهم كفار بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون.
ولكن ما صلة النور والحياة بالاستجابة والهداية؟ وما صلة الإعراض بالموت والظلمة؟ لهذا الفتة يتصدى صاحب الظلال فيقول:"وبين طبيعة الكفر وطبيعة كل من العمى والظلمة والحرور والموت صلة, كما أن هناك صلة بين طبيعة الإيمان وطبيعة كل من النور والبصر والظل والحياة، إن الإيمان نور، نور في القلب ونور في الجوارح، ونور في الحواس..نور يكشف حقائق الأشياء والقيم والأحداث وما بينها من ارتباطات ونسب وأبعاد, فالمؤمن ينظر بهذا النور، نور الله، فيرى تلك الحقائق، ويتعامل معها، ولا يخبط في طريقه.. والإيمان حياة ..حياة في القلوب والمشاعر.. حياة في القصد والاتجاه.
والكفر عمى..عمى في طبيعة القلب.. وعمى عن رؤية دلائل الحق..وعمى عن رؤية حقيقة الوجود.. وحقيقة الارتباطات فيه.. وحقيقة القيم والأشخاص والأحداث والأشياء..والكفر ظلمة أو ظلمات..فعندما يبعد الناس عن نور الإيمان يقعون في ظلمات من شتى الأنواع والأشكال.. ظلمات تعز فيها الرؤية الصحيحة لشيء من الأشياء..والكفر موت..موت في الضمير..وانقطاع عن مصدر الحياة الأصيل..وانفصال عن الطريق الواصل..وعجز عن الانفعال والاستجابة الآخذين من النبع الحقيقي، المؤثرين في سير الحياة..ولكل طبيعته ولكل جزاؤه، ولن يستوي عند الله هذا وذاك.
لا يستوي الأحياء الذين يرفلون في الطيب"مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"(النحل:97), وأولئك الموتى في حياتهم الذين في معيشتهم كالأنعام "وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ"(محمد:12)
في النفس, كما يقول ابن تيمية في الفتاوى, من لوازمها الإرادة والحركة فإنها حية حياة طبيعية لكن سعادتها أن تحيا الحياة النافعة, فتعبد الله, ومتى لم تحي هذه الحياة كانت ميتة, وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجبا لعذابها, فلا هي حية متنعمة بالحياة ولا ميتة مستريحة من العذاب, قال تعالى "لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى"(طه:74) فالجزاء من جنس العمل لما كان في الدنيا ليس بحي الحياة النافعة ولا ميتا عديم الإحساس كان في الآخرة كذلك, والنفس إن علمت الحق وأرادته فذلك من تمام إنعام الله عليها وإلا فهي بطبعها لابد لها من مراد معبود غير الله ومرادات سيئة، فهذا تركب من كونها لم تعرف الله ولم تعبده.