الشوق يسري في القلوب محبة… والروح تهفو إلى أعظم البقاع بركة..
إلى رحاب الديار المقدسة ..مكة المكرمة ..
وفي كل عام من شهر ذي الحجة.. يشّدوا المسلمون رحالهم إلى بيت الله ملبين نداءه
_ لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك _
وقد تركوا الوطن والأهل والمال والولد.. وتوافدوا من كل بقعة على أرض المعمورة…
مشنفين أسماعهم للنداء الأكبر
( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأتينَ ِمن ُكل فج عَمِيقِ )27 الحجٍ
ومن كتب الله لهم تلبية النداء..أتوا عازمين الرحال و حاملين حقائبهم..
تسير بهم رحلة تطوي بر الأرض وسواحلها.. وقد تجردوا من متع الحياة وملذاتها.. لا يحملون معهم زاد غير التقوى وإخلاص النية لله.
فما أعظمها من رحلة في مؤتمر إسلامي جمع من أقطار المعمورة.. وشتى دولها أُناس لا تفاضل بينهم..على اختلاف جنسياتهم وتباعد أوطانهم..
يحدوهم الخوف والرجاء.. فما من عمل يصدر منهم إلا وفيه أجر وعظيم بركة .. داعين الله ومستغفرين وطالبين رضوانه.
في رحاب الحج وبين المشاعر المقدسة … تباين المشاعر الإيمانية ..
وتظهر جلياً على رؤى الحاج وقد تجرد من لباسه.. ملتفاً برداءٍ أبيض.. وكأنه ينساق إلى أرض المحشر بانكسار نفس وإذلالها لخالقها .. وفي ثنايا روحه توقٌ لمغفرة الله تعالى ورحمة ..
تربت فيه ملكة الصبر.. والإحسان.. وكل فضيلة وصفت.. باعدت بينه وبين الرفث والفسوق والعصيان..
وطاف ملبياً حول الكعبة يستحضر في ذاكرته ..سنة سيدنا إبراهيم عليه السلام … ومن تبعه إلى نبينا محمد صلوات الله عليه وسلم .. الذي أمرنا وقال (خذوا عني مناسكم)رواه مسلم.
وتبدأ الرحلة الإيمانية.. على تقوى الله والتقرب إليه ما أمكن من القربات.. والتنزه عن مفارقة السيئات ..فإنه بذلك يكون مبروراً ..والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة..
ويبدأ الحاج في المشعر الأول من يوم التروية.. وقد أعد العدة داعياً ذاكراً ملبياً .. لقاء الله .. حتى يسفر نهار يوم عرفة ..ويسير مع جماعات الناس إلى صعيدها .. تتبعهم خطوات الشوق إلى مغفرة من الله ورضوان.. في يوم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنه: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لاإله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) رواهالترمذي، وحسنه الألباني.
هذا اليوم الذي يباهي الله فيه بعباده عند ملائكته.. وأنه يوم مغفرة الذنوب، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف: في صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفه، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟).
قال ابنُ عبدِ البر: "وهذا يدلُ على أنهم مغفورٌ لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبة والغفران".
.. فما أعظم هذا اليوم الذي يجّد فيه العمل والطلب في المسألة.. واستشعار الوقوف بين يدي الله تعالى.
ثم يسير الرحال إلى مزدلفة والقلوب قد غمرتها لطائف الله، وهي تعظم شعائره }وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ{ 32الحج.
وبتتابع النسك من رمي للجمار. ونحر للهدي بعد نداء العيد على صعيد منى، ونسمات الفجر مع التكبير والنفحات الإيمانية..
ومع انتهاء أيام التشريق يدنو الرحال بطواف الوداع
وإكمال النسك.. والكل قد طاف مودعاً.. والدموع تسابقه.. والذكريات تلوح أمامه..
مع انقضاء رحلة الحج..والعودة لبلده.. وفي حنايا جوفه ..آمال بمغفرة من الله.. تجرده من ذنوبه .. ويرجع حاملاً روحا مختلفةً وخلقاً وضاءً. فالحج مدرسة يتربى فيها المسلم على أجل العبادات وأنفعها.. ويعود بإذن الله مغفوراً له ..(من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه )رواه البخاري.
ونسأل الله جل في علاه …أن يبلغنا هذا اليوم ..مغفوراً لنا ولأمة المسلمين أجمعين.