قال القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي: (كيف أبتسم والأقصى أسير والله إني لأستحي من الله أن أبتسم وإخواني هناك يعذبون ويقتلون)
أسباب الّنصر:
لم يكن النصر في معركة حطّين وليد يوم وليلة، إنما كان نتاج سنوات من الإنجازات السياسيّة والفكريّة والاقتصاديّة والعسكريّة، قام بها السلطان صلاح الديّن الأيّوبيّ، وارتبطت بهدنة استمرت أربع سنوات مع الصليبين-لكنهم نقضوها -واستمرت هذه التحضيرات مدة عشر سنوات.
–من هذه الانجازات توظيف إمكانيات وطاقات مصر الهائلة التي كانت مجمّدة ومعزولة في عهد الفاطمين للانتصار على الصليبين. فأعاد مصر إلى الخلافة العبّاسية، وأحل الفكر السنّي محل المذهبية الإسماعيلية الباطينية، بإقامة المدارس السنّية التي كانت بمثابة مؤسسات وجامعات ضخمة سخى بالإنفاق عليها والاهتمام بها، فكانت تدرس مذاهب السنّة الأربعة.
–شدّد على أهمية الانتماء الفكري بين الدولة و الأمّة بدل الانفصام الذي كان موجوداً بينهما، فتحولت المناهج كلها إلى المذهب السني، ومع "الدولة" والعلم والفكر والتعليم تحول القضاء إلى المذاهب السنية أيضًا.
–على الجهة الاقتصادية حل "الإقطاع الحربي" في استثمار الأرض الزراعية محل نظام "الإلتزام" أي إقتصاد الحرب و المعركة وبلغة الفقه الإسلامي؛ هو وقف الأرض على الجهاد في سبيل الله. فأصبحت الزراعة مخصصة للإنفاق على فرق و أمراء الأجناد مما حقق الولاء والانتماء بين المحكومين والحكام.
–سبقت معركة حطين عدة مناوشات ومعارك لإحكام الطوق على الصليبين ولتأمين الطريق بين مصر والمشرق العربي وأيضا تأمين طريق الحج.فدخل دمشق وحمص وحماة وفتح اليمن وعقد تحالفًا مع الموصل وحلب-لكن عاد وفتحها بالقوة بعد نقض أمير حلب للاتفاق-وأرمينيا والجزيرة وأربيل وكيفا وماردين وقونية.
–وتحصينًا للجبهة العامة المكرسة كل طاقاتها وإمكاناتها وجميع ثغورها لتحقيق استراتيجية التحرير، بلغ صلاح الدين حد التشديد ضد كل الأيديولوجيات والفلسفات و الأفكار المخالفة للسنة-عقيد الأغلبية-فقضى عليها. فالوضع لا يحتاج لتميع الجبهة الفكرية بل إلى التجيش والتميز عن الآخر والكراهية له كشرط من شروط الانتصار والتعبئة.
–بالإضافة إلى هذه الإنجازات فإنها نابعة من قائد للأمة رباني بكل ما للكلمة من معنى..فقد تميز بالعلم والتفقه بأمور الشرع والصدق والشجاعة والكفاءة وحب التضحية والتواضع وحسن اختيار من يعاونه وإصلاح الجيش والقدرة على التعليم وإعداد القادة. كما تميز صلاح الدين بالتخطيط وحسن الإدارة والإعداد الاقتصادي ودراسة الواقع. كما اهتم منذ سنوات طويلة بالإعداد النفسي لجند المسلمين لأنه كان يعلم أنه بقدر الإهتمام بالجانب المعنوى والنفسى للفرد بصفة عامة وللجندي بصفة خاصة بقدر ما تزيد قدرة تحمله أمام المواقف الصعبة. ولقد منّ الله على الأمة الإسلامية بهذا القائد بعد أن كانت فقدت الأمل بالقيادة، لكنّ الله هيئ لها صلاح الدين لكي يعيد لها فجر عزتها.
معركة حطين~
وقعت معركة "حطين" في 22 ربيع الثاني سنة 583ه4 تموز/ يوليو سنة 1187م أي بعد تسعين عامًا من بدء اجتياح الصليبين لديار الإسلام. وذلك بعد أن قام أرناط حاكم الكرك بعمل طائش أدى إلى نقض الهدنة وإشعال الحرب، فاستولى على قافلة تجارية متجهة من مصر إلى دمشق، وأسر حاميتها ورجالها، وألقى بهم أسرى في حصن الكرك. فبعث صلاح الدين إليه مقبحًا فعله، وتهدده إذا لم يرد أموال القافلة ويطلق سراح الأسرى. وبدلاً من أن يستجيب أرناط أساء الرد، واغتر بقوته، ورد ّعلى رسل صلاح الدين بقوله:"قولوا لمحمد يخلصكم". وأصر على رأيه فلم يبقى لصلاح الدين سوى الحرب والقصاص.
عبأ صلاح الدين قواه واستعد للمعركة بعد أن أعد لها عشر سنوات. وتجمعت جيوشه من مصر وحلب والجزيرة وديار بكر ودمشق واتجهت إلى حصن الكرك فدمرته بعد حصاره وكذلك اتجهت إلى الشوبك وفعلت به مثل ذلك. ثمّ اتجت إلى بانياس قرب طبرية وكانت القوات الصليبية قد تجمعت واتحدت فيما بينها ناقضة الهدنة تحت قيادة ملك بيت المقدس .
ولإجبار الصليبين على المسير إليه وهم متعبون، هاجم صلاح الدّين طبرية حيث كانت تحتمي زوجة ريموند الثالث، مما اضطرّ الصليبين بالزحف إلى طبرية بصعوبة تحت أشعة شمس تمّوز/يوليو، تعاني قلة الماء وعورة الطريق وكان صلاح الدين وجنوده ينعمون بالماء الوفير مدّخرين قواهم لساعة الفصل ورابط عند قرية حطين.
وقد حرص صلاح الدين على أن يحول بين الصليبين والوصول إلى الماء في الوقت الذي اشتد فيه ظمؤهم، كما أشعل المسلمون الناّر في الأعشاب والأشواك التي تغطي الهضبة-المطلة على طبرية-، وكانت الريح على الصليبين ،فحملت حر النار والدخان إليهم، فقضى الصليبيون ليلة سيئة يعانون العطش والإنهاك، وهم يسمعون تكبيرات المسلمين وتهليلهم الذي يقطع سكون الليل، ويهز أرجاء المكان، ويثير الفزع في قلوبهم.
عندما أشرقت شمس يوم السبت الموافق (24 من ربيع الآخر 583ه = 4 من يوليو 1187م)، اكتشف الصليبيون أن صلاح الدين استغل ستر الليل ليضرب نطاقًا حولهم، وبدأ صلاح الدين هجومه الكاسح.حاول الصليبيون أن يحتموا في جبل حطين والتراجع لكن المسلمون شدوا عليهم، وسقطت خيمة الملك الصليبي "جاي لوزنجان" فسجد صلاح الدين وقبّل الأرض وشكر الله عز وجل، فكانت هزيمة جيش الصليبين، حتى بقي منهم ملك بيت المقدس ومعه مائة وخمسون من الفرسان، فسيق إلى خيمة صلاح الدين، ومعه أرناط صاحب حصن الكرك وغيره من أكابر الصليبين، فاستقبلهم صلاح الدين أحسن استقبال، وأمر لهم بالماء المثلّج، ولم يعط أرناط، فلما شرب ملك بيت المقدس أعطى ما تبقّى منه إلى أرناط، فغضب صلاح الدين وقال: "إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فينال أماني"، ثم كلمه وذكّره بجرائمه وقرّعه بذنوبه، ثم قتله وقال: "كنت نذرت مرتين أن أقتله إن ظفرت به: إحداهما لما أراد المسير إلى مكة والمدينة، والأخرى لما نهب القافلة واستولى عليها غدرًا"..
.
نتائج معركة حطين:
كانت معركة حطين بمثابة كارثة حلت على الصليبين حيث فقدوا أعظم فرسانهم وخيرتهم وأسر وقتل منهم أعداداً هائلة. وكانت بالنسبة للمسلين أول الطريق نحو تحرير بيت المقدس، فشرع صلاح الدين بتحرير المدن والثغور والحصون واحدة تلو الاخرى:طرابلس، عكا، بيروت، صيدا، يافا، قيسارية، عسقلان وأهم قلاع الصليبين جنوبي طبرية وغيرها من المدن التي استسلمت بعد فتح بيت المقدس.. حتى توجت جهوده بتحرير بيت المقدس في (27 من رجب 583ه = 12 من أكتوبر 1187م).
هذا وقد أصدر صلاح الدين عفواً عن الأسرى لتزين تاريخه الناصح ، ولتبين للعالم ولأوروبا عظمة هذا القائد المسلم. ولمعاملة صلاح الدين للمقدسين بعد الفتح كلام لا ينتهي ومواقف لا تقل أهمية وعظمة عن أحداث ومواقف الفتح العسكري.