الدليل الكامل لتشخيص وعلاج مرض الملاريا
عندما بدأ المستعمرون الغربيون في غزو المناطق الأكثر دفئا من العالم، ظهرت بينهم إصابات غريبة بالحمى صاحبتها رعدة قوية وآلام مبرحة بالمفاصل وقيء وشحوب، وربما وصل الأمر إلى التشنجات أو الإغماء حتى الوفاة.
حاول العلماء، في تلك الأزمنة، ربط الأمور، فلم يجدوا سببا مقنعا إلا أن هذه الحالات تزداد بجوار المستنقعات والمياه الراكدة، فأطلق عليها الإنجليز اسم حمى المستنقعات Swamp fever، بينما سماه ذوو الأصل اللاتيني مرض الهواء الفاسد Mal Aria. وتطور العلم، فظهر السبب وبطل العجب، ولكن استمر الاسم على ما هو عليه، «الملاريا».
وفي مؤتمر عقد عبر الإنترنت يوم 12 نوفمبر الحالي، أعلن معهد جون هوبكنز لأبحاث الملاريا عن توصله لنتائج بحثية مبشرة في مجال السعي العالمي الحثيث لمكافحة مرض الملاريا القاتل، ومنها استخدام البعوض المهندس وراثيا لحد من انتشار المرض خاصة.
وتجدر الإشارة إلى أن العقار المستخدم علاجيا الذي أثبت فعالية خلال السنوات الماضية أخذت في التراجع في مناطق متعددة من العالم نتيجة تكون مناعة لدى ميكروب الملاريا ضد العقار.
وقال البروفسور جورج ديموبولوس، أستاذ المناعة المساعد بالمعهد: «يأتي البعوض في المرتبة الثانية من حيث الخطورة على البشر، بعد البشر أنفسهم. فلقد تسبب في مقتل أعداد تفوق أي مخلوق حي آخر. ومن هنا جاءت أهمية أبحاثنا».
وأوضح الدكتور محمد بدير، استشاري طب المناطق الحارة، بعض الحقائق عن المرض، منها أن مرض الملاريا يصيب أكثر من 350 مليون شخص، ويؤدي إلى وفاة ما بين مليون إلى ثلاثة سنويا.
ومن جهته قال البروفيسور بيتر أجري، مدير معهد جون هوبكنز والحائز على نوبل في مجال الكيمياء عام 2022 لاكتشافه معابر المياه في جدار الخلية إن «الكثير من الناس يهتمون اليوم بمسألة الصحة العالمية، ونريد إشراكهم بصورة أكبر في المطاردة البحثية لمرض الملاريا».
الإصابة ومسار المرض
وأشار بدير إلى أن الميكروب المسؤول عن الإصابة يسمى «بلازموديوم»، وينتقل إلى الإنسان عبر كائن وسيط هو البعوض، بل وإن ثلاثة أنواع فقط من إناث البعوض تمتلك القدرة على نقل المرض إحداها في أفريقيا، والثانية في آسيا والثالثة في أميركا الجنوبية.
فعندما تلدغ البعوضة الإنسان لتحصل على غذائها من الدم، تنتقل حويصلات المرض Sporozoites التي توجد في لعابها إلى داخل جسم الإنسان.
وبعدها تبدأ المرحلة الأولى من المرض، حيث تنتقل الحويصلات إلى الكبد لتبدأ مرحلة التزاوج اللا ـ جنسي لمدة تتراوح بين 6 إلى 15 يوما، دون أن تنتج عن ذلك أية أعراض مرضية.
وفي هذه المرحلة تتحول الحويصلات إلى صورة أخرى Merozoites ثم ينتهي الأمر بانفجار الخلية الكبدية لتخرج الجرثومة إلى مجرى الدم، وتصيب الخلايا الحمراء لتبدأ المرحلة الثانية من المرض.
وتعيد الجرثومة التزاوج مرة ثانية، وتغزو المزيد من الخلايا الحمراء مما يتسبب في أعراض الحمى والأنيميا.
وفي مرحلة لاحقة، تتحول بعض الجرثومات إلى الصورة النهائية لها Gametocytes، وهي القادرة على التزاوج الجنسي، حيث إنها تكون إما ذكرا أو أنثى، وإن كان مثل هذا التزاوج لا يحدث بداخل جسم الإنسان.
ولا يتمكن الجهاز المناعي من التعرف على الميكروب، كونه يقضي معظم وقته بداخل الخلايا، كما أنه في المرحلة التي ينتقل خلالها من خلايا الكبد إلى خلايا الدم، فإنه يحيط نفسه بجزء خداعي من جدار الخلية المنفجرة.
وعندما تلدغ البعوضة إنسانا مصابا، فإن جزءا من الجرثومات المذكرة والمؤنثة ينتقل إلى معدتها ليتزاوج جنسيا، وتنتقل الحويصلات الناتجة إلى غددها اللعابية لتبدأ دورة جديدة.
التشخيص والعلاج
يعد الفحص الميكروسكوبي للدم Blood film أشهر وأرخص وأقدم طريقة معروفة لتشخيص المرض، ولكنه يحتاج إلى خبرة كبيرة في طريقة تحضير العينة وفحصها، كما أن بعض العينات قد تعطي نتائج سلبية كاذبة. ولذلك ابتكر العلماء وسائل أكثر حداثة ودقة للكشف عن المرض، مثل القياس المناعي المختبري Immunochromatographic assay، ولكنها وسائل مكلفة للغاية.
أما وسائل العلاج، فيعد عقار الكلوروكوين Chloroquine أحد أنجح العلاجات لمرض الملاريا على مر التاريخ، فهو فعال ورخيص وآمن إلى حد كبير.
ولكن بدأت فاعلية العقار في التراجع بمناطق متعددة من العالم نتيجة تكون مناعة لدى ميكروب الملاريا ضد العقار.
ونظرا لأن باقي الأدوية لم تلق الترحيب الكافي عالميا، فهي إما باهظة الثمن، أو ضعيفة النتائج، فقد ألقى ذلك بمزيد من الحمل على عاتق الوقاية من حدوث المرض من الأساس.
الوقاية من المرض
ما زالت محاولات إنتاج لقاح مضاد للملاريا تحت الدراسة والاختبار، ولم تفلح أي من اللقاحات التي تم تجربتها مختبريا حتى الآن في إثبات جدواها في مجال الوقاية.
ولذا، فإن الوقاية تعتمد حتى يومنا هذا بالأساس على القضاء على البعوض، وكذلك العقاقير التي تساهم في تقليل الإصابة. وقد نجحت العديد من الدول الغربية، كالولايات المتحدة وجنوب أوروبا، في القضاء بصورة شبه نهائية على البعوض، ولكن الوضع ما زال سيئا في المناطق الحارة من العالم.
وتظل الطرق المتاحة للوقاية من المرض تحمل جوانب سلبية، فالمبيدات الحشرية لها أضرارها، ومحاولة التخلص من مناطق تكاثر البعوض، كالمستنقعات والمياه الراكدة أمر غاية في الصعوبة، وشباك الوقاية من البعوض (الناموسية)، والدهانات الطاردة للبعوض تظل حلولا قاصرة.
دراسات حديثة
يشير البروفسور مارسيللو جاكوبز لورينا، الأستاذ بمعهد جون هوبكنز، إلى نجاحه في التوصل إلى تعديل بالشفرة الوراثية للبعوض، جعلته يفرز مادة قاتلة لجرثومة الملاريا، ولكن هذا لا يعني إمكانية تعديل الشفرة الوراثية لكل البعوض.
ولكنه يضيف: «ما زال أمامنا الكثير من العمل والتحديات».
ويعمل حاليا البروفسور لورينا على محاولة تعديل البكتيريا الموجودة بداخل أمعاء البعوض حتى تقوم بدورها بقتل الملاريا.
وسيكون نشر البكتيريا أسهل من نشر البعوض المطور وراثيا، فيكفي أن تقوم بوضع البكتيريا المعدلة على الغذاء الطبيعي في أماكن تكاثر البعوض، لتنطلق بعدها دورة الحياة، ويأتي يوم لا يعرف فيه العالم كلمة «ملاريا».
وفي سياق متصل، يسعى معهد مكافحة الملاريا في زامبيا إلى الانتهاء من تطوير اختبار بسيط وسريع للعاب يمكنه تحديد الإصابة بالملاريا في لحظات قليلة دون الحاجة إلى اختبارات معقدة وغالية التكاليف.
كما يسعى البروفسور جورجي جلاس، أستاذ الأمراض المتوطنة بجامعة جون هوبكنز، حثيثا إلى وضع خارطة نهائية باستخدام صور الأقمار الاصطناعية توضح مسالك هجرة البعوض الموسمية بدقة، مما يسمح بتتبعها والقضاء عليها نهائيا.
دمتم فى حفظ الله