هل للرذائل والفضائل أسباب اقتصادية؟ هذا هو السؤال الذي يوجهه الشيخ محمد الغزالي في هذا الجزء الثاني والأخير من عرضنا لكتاب "الإسلام والأوضاع الاقتصادية".
في هذا السياق يؤكد الشيخ أن غاية المراد للدين أن يجد الجوّ الملائم لغرس العقيدة في نفوس الناس؛ لتظهر آثارها في خلق وعمل، ثم يعترف الشيخ قائلا: وقد رأيت بعد تجارب عدة أنني لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجو الملائم لغرس العقائد العظيمة والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة!!. إنه من العسير جداً أن تملأ قلب إنسان بالهدى إذا كانت معدته خالية أو أن تكسوه بلباس التقوى إذا كان بدنه عاريا. إنه يجب أن يؤمن على ضروراته التي تقيم أوده كإنسان ثم ينتظر بعدئذ أن تستمسك في نفسه مبادئ الإيمان. فما الحل؟
يصدح الشيخ بالحل الحقّ قائلا: لا بد من التمهيد الاقتصادي الواسع، والإصلاح العمراني الشامل إذا كنا مخلصين حقا في محاربة الرذائل والمعاصي والجرائم باسم الدين.. أما أن نترك الظروف التي تلد الجريمة تنمو وتتكاثر، ثم نكتفي في خدمة الدين بالنصائح المجردة، والعواطف المفتعلة، فهذا في الحقيقة هو العبث المبين. ولست هنا أنكر قيمة الوازع الأدبي. أو أحاول بخْس الضمير الإنساني حقه لكنه ليس مطلوبا من كل البشر أن يكونوا على هذه الدرجة من السمو..
للرذائل أسباب اقتصادية
ثم يتناول الشيخ بعضاً من هذه الجرائم التي تتعلق بأسباب اقتصادية فيذكر:
* السرقة: يذكر أسبابها ووسائل القضاء عليها.. واستمع إلى حكمة الشيخ حين يقول: "ولعل أيسر الأمور إقامة مجتمع تقل فيه جرائم السرقة أو تختفي. لا بالإرهاب والقطع والقتل، ولكن بمنع الأسباب غير النفسية، أى بمنع الأسباب المادية، التى تُلجئ إلى السرقة في أغلب الأحيان. عندما تفتح أبواب العمل، وتضبط مصادر الكسب، وتحدد أسباب الملكية وقيمتها. وعندما يعرف نور الحياة ونور العلم طريقه إلى المشردين من أبناء الأمة. وعندما يُحوَّل تعطل الطبقات المترفة إلى عمل، وتُستثمر أموالها في المشروعات التى يفيدون بها ويفيدون منها… عندئذ تقل جرائم السرقة حقا! ويومئذ يستحق السارقون أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
* الزنا: يتحدث عن أسبابه وعن وسائل مواجهته ليقذف إليك بالحكمة قائلا: "فإذا أردنا باسم الدين قمع الحركات الجنسية الخبيثة، فيجب أن نيسّر وننظم أسباب الاتصال الجنسي الحلال. وأن نفرغ من العمل على وضع الحلول الصحيحة لهذه المشكلة المعقدة ولن يكون ذلك إلا بإعادة النظر في فهم حقيقة الزواج، والأساليب العسيرة التى يتم بها الآن. إن إتاحة الزواج للراغبين مسألة لا تقل أهمية عن ضمان الأقوات للشعوب"..
هكذا يؤكد الشيخ أن هذه الجرائم انحرافات اجتماعية كبرى لكن حكمة البصير تقتضي أن نبحث عن مسبباتها وقد لفتنا هو إلى ذلك قائلا: لقد وضع أئمة الفقه الإسلامى قاعدة ثابتة هى أن: "كل ما أدى إلى الحرام فهو حرام" فلا بد إذن من إعادة التوازن الاقتصادي على أساس لا تبقى معه هذه الموبقات..
وللفضائل أسباب اقتصادية
في هذه اللفتة الرائعة يربط الشيخ بين ما ينشأ فيه المسلم المعاصر من فقر وظلم وتأثير ذلك على نفسه ومعاني الفضيلة داخلها ثم يستنتج في مرارة: "كان لزاما في هذه الحياة الراكدة الجامدة أن يصاب جمهور الشعب بنقص عقلي، هبط بقواهم الأدبية هبوطه بقواهم المادية. ومن المفيد أن نعلم أن عقل الإنسان كجسمه، يحتاج إلى غذاء دسم منظم، لكى يستمر نماؤه ويتم كماله".. ثم يتحدث عن بعض الفضائل التي يطلبها الدين وينميها في نفس المسلم وهل كان للأسباب الاقتصادية دور في تنميتها أو خمولها..
* عزة النفس: وهي فضيلة يحث عليها الدين وينميها في قلب المسلم فهل لهذا علاقة بالظروف المعيشية التي نحياها؟.. يؤكد الشيخ أن حاجة النفس الإنسانية إلى سناد مادي لتقوى به وتعتز أمر لا بد منه وإلا فسيدركها ذل الاحتياج وهوان الشأن في البيئة الفقيرة الحقيرة! ولولا الكفاح المتتابع الجاد الذى قام ولم يزل يقوم به العلم والإيمان لاستبد في الأرض سلطان الكثرة في المال والجاه، ولأنكِرَ على الطبقات الفقيرة كل شرف وتقدّم..
* التعلم: وهي من أولى الفضائل التي حثَّ الدين عليها وهاهو يؤكد عليها إذ يقول: ينبغى أن نجزم بأن العلة الأولى في فساد التدين وتأخر أصحابه هي الجهل الثقيل، الذى ضيّق آفاق الحياة في أعينهم، وأفسد الذوق الإنسانى في فطرتهم.. فكيف يعم الدين القلوب إذا لم يعم العلم العقول فالله تعالى يقول: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ}؟ وكيف يتم هذا أو ذاك، إلا في حراسة العدل الاجتماعي الصحيح؟ فهناك أرستقراطية علمية تتمم أختها المادية لتبقى الطبقات الفقيرة جاهلة متأخرة؛ لأن احتكار العلم إحدى الدعائم التي يقوم عليها نظام الطبقات..
ضوابط الملكية الخاصة في الإسلام
خصص الشيخ مبحثا خاصا لمناقشة هذه الضوابط، فقرر بداية أن المال ملك لنا على سبيل التجوُّز لا الحقيقة ونحن مستخلفون فيه، لينظر الله عز وجل ماذا نعمل به. فإما حكمت تصرفاتنا لنا أو علينا. وإلى هذا يشير القرآن: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}. ويقول تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}. ثم عمل على شرح هذه الضوابط في ظل القرآن فأورد الإطار العام وهو قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.
فهدف الديانات والرسالات الأولى: قيام التوازن بين الناس، بإقامة العدل الاجتماعي والسياسي فيهم، وتشريع القوانين المادية والأدبية التي تكفل تحقيق هذه الغاية الكبيرة بينهم.. هذا الميزان هو الميزان الشرعي الذي يمسك به المصلحون لضبط الأوضاع والأعمال، وتوزيع الحقوق والواجبات، وتنظيم الهيئات والطبقات! وهو ميزان تتجدد أحكامه بتجدد العصور، وتتغير قوانينه بتغير الأمكنة والأزمنة. ولكن قيام الناس بالقسط هو محور الارتكاز الذي لا يتغير أبدا.. وللحكومة -من وجهة النظر الدينية- أن تقترح ما تشاء من الحلول. وأن تبتدع ما تشاء من الأنظمة لضمان هذه المصلحة..
ثم لا ينسى الشيخ أن يؤكد اعتدال الدين وحياديته مبينا أن المال ليست صورته شقاء وانحرافا في الدنيا وويلا وثبورا في الآخرة، بل إن أصحاب الأموال في الإسلام لهم أن يأخذوا مكانتهم في الحياة ووجاهتهم بين الناس وذلك لسببين:
الأول: أن المال يعطي صاحبه قوة بالغة يحقق بها مآربه، ويبلغ بها أغراضه، ويستطيع في ظلها الاستغناء عن الكثيرين من الناس، والكثير من الأعمال المحرجة والمضنية.
والثاني: أن الدين يعد المؤمنين بحسنى الحياتين جميعا. فهم إن آمنوا وأصلحوا صلحت معايشهم في الدنيا، وصلح مستقبلهم في الآخرة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فالسعادة في الدنيا بعض الأجر المعجّل للإنسان على استقامته فيها.
ثم يؤكد الشيخ أنه لا يجوز أن يبقى إنسان بغير دخل يكفل له المستوى الواجب لحاجاته، كما أن استئصال الحرمان وإذهاب العيلة واجب لا بد منه بإخراجه من ثروات الأغنياء ولو تجاوزت حد الزكاة المفروضة؛ لأن حفظ الحياة حق إسلامي، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في المال حقا غير الزكاة"..
ثم يتحدث الشيخ عن الزكاة والضريبة والتشريعات التي يجب أن تتخذها الدولة لتكفل الحياة الكريمة لمواطنيها، ويتناول بأسى بالغ الحياة في الريف المصري واصفا بدقة معجزة حياة هؤلاء البسطاء البائسة وتدني الخدمات المقدمة لهم مفندا في غضب المثل القديم من أن في الريف ثلاثة يذهبن الحزن: الماء والخضرة والوجه الحسن"..
ثم يختتم الغزالي صولته في كتابه (الإسلام والأوضاع الاقتصادية) بهذه النصيحة الرائعة واصفا العلاج الناجع لمجتمعنا: "يجب أن ننتفع بالدين في بناء أمة تتوافر فيها التربية النفسية العميقة. والعدالة الاجتماعية الشاملة. والديمقراطية السياسية المنظمة. وبذلك وحده يأخذ الشرق الإسلامى طريقه إلى الحياة"..