والثاني بالفعل والأثر الذي قدمه وسيتركه من بعده, ويظهر هنا تمايزه عن بني جنسه وعن غيره من الكائنات الأخرى, فقد يموت الإنسان وبموته ينتهي فعله وأثره, لان حدود تلك الفاعلية, وهذا الأثر, لم تكن تتجاوز ظله, وقد يخلف من بعده أثرا ضخما يدل عليه ويبقي ذكره بين الناس حيا, وإن فني منه الجسد ورمت العظام.
وهذا الذي قضى حياته بمعيار الأيام والسنون, ولم يكن له كبير حظ من الفاعلية والأثر, لم يذق طعم الحياة حقيقة, وقضى على نفسه وذاته بالموت مبكرا, بعدما رضي بالبقاء في جُب الأسر, في ظل معوقات, وقيود, لم يبذل من جهده لإزالتها, وفي مقدمتها تلك القيود النفسية التي تجذبه إلى الدعة والسكون, ظنا أن في ذلك نجاة وحياة, والأمر على خلاف ذلك تماما, فهو الهلاك والموت.
فقد ينظر الإنسان إلى نفسه نظره دونية, فيرى فيها قزما ضئيلا, لا يستطيع أن يحفر لذاته واقعا وأثرا, فيركن إلى عد الأيام والسنون لعلها تمر سريعا, فيمضى كما مضى الأولون, ولا يرنو بصره إلى خارج نفسه ليرى أولئك العمالقة العظام كيف خطوا لأنفسهم أثرا قويا لا تمحوه الأيام واليالي.
أو تراه يقتبس من حياة الآباء والأجداد قيودا يضعها في يديه وقدميه, ظنا أن تلك هي الحكمة والعقل وحسن التدبير, دون أن يفكر يوما في التخلص من أسر هذه القيود والقفز خارج قفص التبعية والابائية الذي نعاه الكتاب الكريم بقوله تعالي: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة:170 الآية).
وقد يرى الكون من حوله بمنظار اليأس, فلا سبيل لفعل شيء ناجح, ولا لترك أثر جميل, فيغدو يُقعده اليأس عن الحراك والتأثير بفعل تجربة أو تجربتين مرا بهما, ولم يكن التوفيق فيهما حليفه, فظن أن في أعقاب كل تجربة فشلا وألما نفسيا كبيرا, فترك الحراك وأسلم نفسه لشيطان اليأس فأقعده, على الرغم من العذابات الأليمة التي تلاحقه من جراء هذا القعود وذاك اليأس.
وهنا تجربه جد مفيدة قام بها أحد خبراء علم النفس لدراسة تأثير اليأسِ على الكائن الحي, حيث صمم صندوقا قسمه إلى جزأين:جزء معدني، وجزء خشبي، وكان يُجري تجربته على الكلاب، فيضع كلبا في هذا الصندوق، ويُغريه بالطعام في الجزء المعدني، ثم يُطلق تيارا كهربائيا، فتعلَّم الكلب أن يقفز من القسم المعدني إلى القسم الخشبي، بعد ذلك صار يُطلق صفارة ثم يطلق التيار الكهربائي بعد خمس ثوان، فتعلمت الكلاب أن صوت الصفارة تعقبه الصعقة، فكانت تقفز فور سماعها لصوت الصفارة وحتى قبل إطلاق التيار الكهربائي، بعد ذلك قام بربط الكلاب في الجزء المعدني، وعندما كانت الصفارة تنطلق كانت الكلاب تحاول الهرب ولكن القيود تمنعها، وكانت تحاول الهرب، ثم تأتي الصعقة فتعذب الكلاب عذابا أليما شديدا، وهي تحاول المستحيل للهروب من قيدها وعذابها، ولكن دون جدوى، ومع التكرار أصابها اليأس، وأدركت أنه لا أمل مهما حاولت، فامتنعت عن الحركة حتى مع عذاب الصعق بالتيار الكهربائي، كانت تنام مستسلمة، وقد أدركت أن عذابها لا مفر منه، ولا جدوى من مقاومته.
تكررت التجربة مرارا لعدة أيام، ثم فكَت قيود الكلاب، ولكنها مع ذلك لم تحاول الفرار عند سماعها للصوت الذي يسبق الصعقة، بل ولا تتحرك مع الصعقة نفسها فيما عدا حركات الصدمة الكهربية، ومهما ارتفع الصوت أو اشتدت الصعقات لم تكن الكلاب تتحرك؛ كانت قد تقوضت من الداخل، واكتسبت حالة من اليأس والخمود، والاستسلام والعجز الذي قضى على حياتها باكرا.
وقد يكون المرء متلبسا بوهم كبير ملئ عليه حياته, وأقعده عن الفاعلية والأثر, من نحو الخوف من المخاطر والمجازفة, فلا يرى شيئا يستحق منه أن يتحلى بروح المغامرة والإقدام والريادة, ويبحث عن مبرات للركون والدعة والكسل الحياتي, مُقنعا نفسه, أو تاركا إياه تقتنع بأنه لا فائدة ولا شيء في الحياة كبيرة يستحق تلك الروح الوثابة المتحفزة.
وهذا الذي يعيش في وهمه لا يبرحه, تراه يسعى ليصطاد من حياة الآخرين نماذج فاشلة ليؤكد قناعته بأن لا شيء يستحق الحراك, مغمضا عينيه وقلبه عن الآلاف من بني جنسه الذين تخلوا عن الأوهام وانطلقوا بنفوس كبيرة تبحث عن التحديات الكبرى وتمناها ولا تلفت لشيء سواها ولا تلوي على شيء سوى الأثر الكبير.
وإذا كنا نقول إن الحلم هو الإيمان بالذات وقدرتها على تحقيق شيء وكفاءتها واستعدادها وتأهيلها للنجاح، فالوهم هو عكس ذلك، فهو عدم الإيمان بالذات، وأن ينتقل الإنسان من حقيقته إلى شيء آخر وهمي، وكأنه يستمد منه قدرته وطاقته، ولذلك فإن الأوهام أن تكون إزدراء للنفس والذات.
وإذا تركنا قيود الأسر لنبحث عن فنون الأثر لوجدنا نفوسا كبارا كسرت هذه القيود وانطلقت تغير مجرى الحياة من حولها في ثقة ويقين وعزم لا يلين, وما انفكت حتى غرست غرسها وتركت آثارها.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الغرس الأكبر والأثر الأعظم, الذي جاء لبشرية تعيش في جهالات وظلمات بعضها فوق بعض, وجد الصدود والإعراض والتكذيب, في بضع سنوات, هي قليلة في عمر هذا التاريخ الطويل, استطاع أن يغير من وجه البشرية جميعها.
ونراه ما مضى إلى ربه إلا بعد أن علم البشرية كلها فنون الأثر حتى في الحظة الأخيرة, ليس في عمر الإنسان, ولكن في عمر الحياة كلها, والساعة تقوم, في الإمكان أن نفعل فعلا ايجابيا مؤثرا, فلنفعل ولنترك أثرا…(إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها).(السلسلة الصحيحة:9)
وهو يرشد البشرية كذلك إلى فن آخر من فنون الأثر, ويعلمهم أن موت الإنسان لا يعد انقطاعا لأثره في الحياة, فيستطيع وهو بين الأموات أن يؤثر أثرا كبيرا في حياة الأحياء, ويحصد من وراء هذا الأثر الشيء العظيم والكبير النافع له بين يدي ربه.. (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية, أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له).(مسلم:1631)
وهذا الجيل الأول الذي تلقف تلك الكلمات, غدا ليكون الأنموذج والمثل في فنون الأثر والفاعلية, فما تعُد من أصحابة الأقربين أحدا إلا وجدت له أثرا ماضيا وفاعلية تعدت حدود الزمن.
فالصديق أثره في الدعوة في حياة النبي وبعدها أكبر من يعبر عنه القلم أو يحيط به قول، والفاروق من بعده نزع نزعا شديدا وأراده أثرا قويا فكان له ما أراد فتحت في عهده الفتوح وبلغ الإسلام مشارق الأرض ومغاربها..
ولقد رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر لبعض هؤلاء النفر الكرام أثرهم الذي به يُعرفون (..أرحمُ أُمَّتي بِأُمَّتي أَبُو بكر، وأشدُّها حَيَاء عُثْمَان، وأعلَمُهَا بالحلال وَالْحرَام معَاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله – تَعَالَى – أُبِيّ، وأعلَمُهَا بالفرائض زيد، وَلكُل أُمَّةٍ أمينٌ، وأمينُ هَذِه الأُمّة أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح..) (السلسلة الصحيحة:1224).
وتوارث الفاعلية وفنون الأثر لمن خلفهم حتى رأينا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله في عمره القصير الذي لم يتجاوز بضع وستون سنة أن يترك أثرا بالغا في حياة من تبعه..فمن منا لم يقرأ لابن تيمية.. ومن ذا الذي لم يستفد من علمه الواسع وكتبه العظيمة.. لقد بقي ابن تيمية بهذه الآثار العظيمة حيا, وإن وري الثرى منذ زمن بعيد.
ولم يكن شيخ الإسلام بدعا في سجل العمالقة والكبار الذين استعلوا بنفوسهم عن الدنايا والصغائر وسموا إلى فنون الأثر والفاعلية, فالإمام النوي رحمة الله الذي وافت المنية في الأربعين من عمره, هو ذاك الشخص الذي ترك لنا هذه الآثار الضخمة, والمؤلفات العظيمة التي خطت أثرا بالغا في العقول والأفئدة.
وبقي السؤال بعد هذا التطواف في قيود الأسر, وفنون الأثر..أين أنت؟
أنت بداخلك عملاق ضخم يحن إلى أن تطلقه من أسره الطويل وتعلمه فنون الأثر..
أنت قادر على أن تصنع معجزات وتمضي على الأثر, لتصنع أثرا كما مضى الصحب الكرام ومن تبعهم..
فقط أيقظ ذلك العملاق وانطلق ولا تصغ السمع إلا لصوت الأمل وفنون الأثر
النفس البشريه ..الدافع السلبي للسكون وهو الياس والدافع الايجابي للبقاء والحركه وهو الامل ..فصعقات الحياة قد تكون مميته للطموح وقاتله للامل ولكن النفوس الكبار لا يضيرها الالم بقدر ما يؤلمها التوقف والبقاء في الخلف فهي دؤوبه في سيرها نحو الامام تعشق المقدمه دوما وتحفر لاسمها اخاديدا في الصخور الجامده …
واذا كانت النفوس كبارا ….تعبت في مرادها الاجسام ..
بارك الله فيك على هذا الاختيار الموفق ..