ومع أن سور القرآن كلها منزلة من عند الله، ومعروف أنها سور إلا أن هذه السورة وحدها دون سور القرآن كلها تميزت بهذا البدء : (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بيناتٍ لعلكم تذكرون) .
والسبب في ذلك : أن السورة تدور حول مشكلات الغريزة الجنسية وهي من أعتى الغرائز وأقواها . ولما كان ضبط هذه الغريزة في مسارها وانطلاقها لا بد منه لضمان نفس شريفة ، وخُلق مستقيم، وعفة شاملة مستوعبة، ومجتمع نقي طهور فإن السورة بدأت هكذا… ولا بد أن نعلم ابتداءً أن الإسلام دين الفطرة – أي دين الطبيعة السوية المستقيمة – يرفض التكلف والافتعال…. وما أنزل الله من تعاليم في هذا الدين القيم هو لضبط الفطرة وضمان أن تسير سيراً حسناً… لهذا كان للغريزة الجنسية تعاليم واضحة في هذا الدين… وكان لانحرافاتها عقوبات محددة في هذا الدين.
الغريزة والزواج
وسورة النور تتحدث عن احترام الغريزة وضبطها حتى لا تنحرف يمنة أو يسرة، ثم التخويف لمن يدع حدود الله أو يترك العقوبات التي قُررت تقريراً حاسماً في هذه السورة المباركة … القرآن الكريم لم يعتبر الغريزة الجنسية رجساً من عمل الشيطان … اعترف بها وجعل المتنفس الوحيد لها الزواج : (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ) (المؤمنون 5-7) ، واعتبر الزواج عبادة بل جاء في السنة أنه نصف الدين: [ إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف دينه فليتق الله في النصف الباقي ] [ رواه البيهقي في شعب الإيمان وصححه الألباني ] .
إذاً فالزواج فريضة اجتماعية لا بد أن تتواصى الأمة الإسلامية بتيسيرها.. لكن ذلك متروك للوعي العام وللضمير المؤمن.
وقد جاءت آيات في هذه السورة تتحدث إلى أولياء الفتيات، وجاءت أيضاً تتحدث إلى من يريد الزواج أو من يقدر عليه ويطلبه … في الآيات الأولى نقرأ قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يُغنيهم الله من فضله والله واسع عليم) (النور 34) ، ويشرح النبي صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه فيقول: [ إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ] [ رواه الترمذي وغيره ] ، ووكل ذلك – بداهة – إلى تقدير ولي الفتاة وإلى تصور الأسرة للنفقة وما يتصل بها.. والواقع أن هذا التقدير لا يمكن أن يـبت فيه قانون ، إنما الذي يبت فيه مجتمع مؤمن، والذي يبت فيه رجال يتقون الله ويريدون أن يشيعوا العفة والقناعة في المجتمع…
وإلى أن يتزوج طالب الزواج ، وإلى أن يستكمل دينه ماذا يصنع بقول الله : (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله) (النور 33)، فلا بد أن يستعفف… وعبارة الاستعفاف تعني أن المرء يتكلف أو يعاني أو يتعب نفسه، ولا بد من ذلك في كبح الهوى وضبط الغريزة… فإن الغريزة العاتية تحتاج إلى إرادة حديدية… وهنا نجد أن الإسلام حارب الانحراف والجنس بمحاربة بوادره الأولى أو المقدمات التي تغري به.. وكان في هذا ديناً عملياً.
لا .. لاقتحام البيوت
في هذه السورة نقرأ قوله تعالى وهو يمنع الانحراف الجنسي : (يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون) (النور 27) ، وكما قال أحد السلف إذا سمعت الآية تقول : (يأيها الذين آمنوا) فأعرها سمعك فإما خير تؤمر به أو شر تُنهى عنه..هذا النداء يستثير الإيمان.. لماذا؟ لأن الإيمان هو الذي يخلق الضمير اليقظان الحي الذي يجعل الإنسان إذا قرع بيتاً ولم يجد الرجل فيه يرجع من حيث جاء.. لا يجوز بتةً اقتحام بيت ليس فيه صاحبه.. لا يجوز ديناً ولا مروءة اقتحام البيت وفيه امرأة وحدها فإن البيت حصنها، وينبغي أن تبقى في هذا الحصن مصونة.. والإسلام يرفض كل تقليد اجتماعي يتواضع الناس عليه لجعل الخلوة ب ممكنة.. يرفض الإسلام هذا لأنه بذلك – فعلاً – يسد أبواب الفتنة.
غض البصر
ثم توجيه آخر لا بد منه وهو: غض البصر… فإن الإنسان إذا أرسل عينه تتلصص على الأعراض من هنا أو من هنا فإنه يفتح أبواب الشر على نفسه… وقد قال شاعر قديماً:
والمرء ما دام ذا عين يقلبها
في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته
لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
إن فتح باب الفتنة يكون بالعين المُحَمْلقة والبصر الطامح.. والإيمان أساس – هنا – في كبح الهوى ؛ لأنه مَن الذي يعلم خائنة الأعين ؟ من الذي يعرف كيف ترسـل بصرك ، وما النية الكامنة وراء هذه النظرة ؟ إن الإيمان هو الأساس الذي لا بد أن يثبت في القلوب : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ) (النور 30)
المثيرات مرفوضة
توجيه ثالث وهو : منع المثيرات الحسية : ( وقل للمؤمنات يغضُضْن من أبصارهنّ ويحفظنَ فروجهنّ ولا يبدينَ زينتهنّ إلا ما ظهر منها ولْيَضربْنَ بخُمُرِهنّ على جيوبهنّ ) (النور 31) ، ومعنى هذا أن جسد عورة ينبغي أن يُوارى أو أن يُدارى وما عدا الوجه والكفين ينبغي ستره … فلا يجوز أن تلبس ملابس تصف البدن أو تشف عن مفاتنه أو تغري العيون الجائعة باستدامة النظر إليه فإن هذا كله فتح لباب الفتنة..
والإسلام عندما يأمر بالعفة وعندما ينهى عن الفحش فهو يسد الطريق ابتداءً أمام المثيرات التي ينزلق بعدها القدم… لهذا كانت السورة كما قلنا سورة آداب جنسية إلى جانب أنها ضمانات وحصانات للأعراض وللشرف وللقيم… من ذلك في أول السورة وآخرها أدب الاستئذان.. ففي أول السورة : ( يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأسنوا وتسلّموا على أهلها ذلك خير لكم لعلكم تذكرون ، فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم ، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ) (النور 27،28) .
آداب منزلية
وفي آخر السورة يقول : ( يأيها الذين آمنوا لِيستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحُلُم منكم ثلاث مرات : من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوّافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ، وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم ) (النور 58،59) .
إن الأولاد في البيت ينبغي أن يعلموا آداب الدخول إلى الغرف.. هذا المعنى – معنى أن الأسرة التي تسكن شقة ، وفيها غرف يُنبه على الأطفال في أوقات معينة ألا يدخلوا إلا بعد استئذان واضح.. – أدب إسلامي ينبغي أن يعرفه المسلمون وأن يلتزموه.. هذا أدب إسلامي لا ينبغي أن نتجاهله أو نزدريه لأنه من ضوابط العِرض وصيانات الشرف التي تُربى عليها الأسرة الإسلامية .
عقوبات
فإذا حدث بعد ذلك أن انحرف أحد فإن العقوبة الإسلامية هي الجلد.. بإجماع المسلمين يُجلد الزاني الذي لم يُحصن.. أي لم يتزوج.. وجمهرة المسلمين على رجم المحصن… والآية في هذا واضحة… (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذْكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ولْيشهدْ عذابهما طائفة من المؤمنين ) (النور 2) .
والجلد عقوبة للإنسان إذا هبط إلى درك الحيوان.. وكما أن الحيوان يُضرب بالعصا حتى ينفذ الأمر الذي صدر إليه لأنه لا عقل له فكذلك إذا هبط إنسان عن منزلة العقل والضمير وارتكس في حمأة الشهوة وأصبح منقاداً لغريزته الحيوانية فإنه يتعرض للعقوبة التي يتعرض لها الحيوان… لأنه أصبح حيواناً إذ يسطو على عِرض كان ينبغي أن يصونه… إذ ينتهك حرمات لله كان ينبغي أن يحفظها وأن يرعاها.
فإذا هبط إلى مستوى الحيوان فهو مستحق لعقوبة الحيوان… على أن الرجم الذي جاءت به السنة إنما جاء إحياءً لشريعة قديمة.. فالإسلام لم يبتدع عقوبة الرجم للزاني أو الزانية إذا كانا محصنين…إنما هذه الشريعة شريعة التوارة ولا تزال برغم ما أصاب كتب اليهود من تحريف… لا تزال هذه الشريعة موجودة إلى الآن تنص على رجم الزاني والزانية ما داما محصنين .
يقول أحد الأدباء تعليلاً طريفاً لهذا الحكم : إن من هدم بيت الزوجية بزناه أو من هدمت بيت الزوجية بزناها ينبغي أن تنتقم أحجار البيوت كلها من جلده ومن بدنه حتى يتعلم كيف يصون البيت!! ولذلك قال القرآن :
( ولا تأخذْكم بهما رأفة في دين الله ) (النور 2) .
القذف حرام
وإلى جانب صيانة الأسر عن طريق منع العمل الرديء فإن الأسر يجب أن تصان عن طريق رفض أي اتهام لا يليق من هذا القبيل، والإسلام في هذا كان حاسماً… فمن قذف إنساناً بالزنا أو قذف أصله أو قذف فرعه الذي يتصل به ويمت إليه بسبب وثيق ينبغي أن يُعاقب بالجلد ثمانين جلدة: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون ) (النور 4) ، وهذا نوع من التأديب لا بد منه، وقد نُفذ هذا العقاب فيمن تطاول على مقام أم المؤمنين رضي الله عنها.. فإن بعض الناس تسافه ووقع في شَرَك أحد المنافقين الذين يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الحق التي بُعث بها وحاولوا في خبث وخسة أن ينالوا من مكانة البيت النبوي فأشاعوا عن السيدة عائشة رضوان الله عليها كلاماً هي منه بريئة وهي فوقه بمراحل وقد نزلت براءتها من عند ذي العرش جل جلاله, وبيّن أنها أعظم من أن تُلم بهذا وأكبر من أن يُلاك عرضها على هذا النحو ، وقيل للمؤمنين في هذا كلام ينبغي أن يعرفوه ويحفظوه : (إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرًّا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) (النور 11)
ثم يؤدب الناس: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين. لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) (النور 12،13 ) ، حتى لو رأيت بعينك وأنت واحد فلا يجوز أن تتكلم لأن الله جل شأنه يريد أن يستر… يريد أن يعطي فرصة للتوبة…
وفي الحديث [ من ستر على مؤمن عورة فكأنما أحيا موؤودة ]
إن ناساً قد يخطئون ولكن الله جل شأنه لا يعامل الناس بخطأ يرتكبونه.. إنه يفتح لهم باب المتاب وفرصاً لا حصر لها حتى يثوبوا إلى رشدهم ويستقيموا على الصراط المستقيم: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمًّى) (فاطر 45) .
تلك الأحكام التي تقررت فيما يتصل بالانحرافات الجنسية بالتهم التي لا ينبغي أن تجري على لسان مسلم يحافظ على الأعراض… هذه الأحكام ينبغي أن نرعاها وأن نحاف