إن هذه الفقرة الهامة في حاجة ماسة إلى تفكير دقيق وعميق، ينطلق من معطيات الواقع من دون مواربة أو ادعاء، بحيث تكون الحلول مقبولة منهجياً وفكرياً، وممكنة عملياً، لأن " القومية الأكاديمية " الزائفة قد تفتح الباب لكم هائل من " المزايدات " التي لا مبرر لها على الإطلاق عند المناقشة في هذا المجال الحيوي الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمن القومي لأي دولة، ولن نكسب شيئاً – بينما الخسارة جسيمة ومؤكدة – إذا تم إقرارها كما هي، ربما بعد تغليظها وإحكامها، ثم يخرج كل منا إلى ما اعتمده منهجاً من دون أن يلقي بالاً إلى هذا النص.
وهنا السؤال مباشر وبسيط للغاية : مع كل الاحترام والتقدير لدوافع ودعاوى الذين سيبادرون إلى الدفاع عن هذا النصّ، ويسعون إلى فرضه أوتبنيه من دون تريث : من منهم سيدفع بواحد من أبنائه إلى جامعة تلتزم التعليم باللغة العربية، إذا لم يسع في الأصل إلى إلحاقه بجامعة أجنبية في بلد أجنبي؟
إن التوجه الجاري الآن – والجارف أيضاً – في إنشاء الجامعات في معظم الدول العربية يتمثل في دعم وتشجيع التعليم باللغات الأجنبية عموماً، بخاصة اللغة الإنجليزية، بل إن الحكومات العربية ذاتها قد تشترطه لمنح الترخيص، تحت دعاوى وذرائع شتى، تصل إلى حد اعتبار التعليم باللغة الأجنبية مرادفاً للتقدم والحضارة، فضلاً عما يرافقه من اعتبارات الهيبة والمكانة. كما أن سوق العمل يتطلب – وأحياناً يشترط – مثل هذا التعليم باللغة الأجنبية و/أو التعليم الأجنبي.
لا شك أن هذه معضلة حقيقية، بل قد تنطوي على كارثة قومية مؤكدة إذا استمر ذلك التوجه على حاله، بخاصة إذا وضع في الاعتبار – وينبغي أن يوضع في الاعتبار – أنه ليست هناك أي دولة في العالم المتقدم، بما في ذلك اليابان والصين، يجري التعليم بغير اللغة القومية للدولة، من دون أي انتقاص من أهمية تعلم اللغات الأجنبية أوالإقلال من شأنها.
ليست هناك على الإطلاق " لغة متقدمة " و" لغة متخلفة "، أو لغة تصلح للتعليم المتقدم ولغة لا تصلح. بل إن " اللغة العبرية " التي كانت قد اندثرت بالكامل أُعيد إحياؤها لتصبح اللغة القومية في كل المجالات لدولة ناشئة حققت إنجازات هائلة، بخاصة في مجالات التعليم والعلوم والتكنولوجيا، بخاصة التكنولوجيا النووية، في مدى زمني محدود للغاية، يقل عن نصف القرن، يمثل " عمرها " بأكمله، وسط حروب متكررة، وتحديات جسيمة تستهدف وجودها ذاته، على نحو لا مثيل له مطلقاً في العالم المعاصر.
ليس معنى ما تقدم أن تترك الأمور الجارية على حالها، ونستسلم لهذه التوجهات على علاتها، مع تأكيد أنها توجهات مدمرة في الأجل الطويل ؛ إنما ينبغي وضع خطة واقعية، لكن محكمة – خطة مقبولة منهجياً وفكرياً، وممكنة عملياً كما تقدم – تدرس الوضع القائم من كل جوانبه، ثم تحدد مراحل متتابعة، أومتداخلة، لتحقيق هذا الهدف القومي العظيم، مع تحديد – وتوزيع – دقيق للواجبات والمسؤوليات، ومتابعة مستمرة للتطبيق ومشكلاته. هذه الخطة ينبغي أن تبدأ بدرس تجربة الجامعات التي اعتمدت التعليم باللغة العربية، في عدد من الدول العربية، واستخلاص الخبرات والمشكلات والتحديات الكامنة فيها.
قد تكون هناك مرحلة أولى بلا شك يتم خلالها معالجة مشكلات تعليم وتعلم اللغة العربية في مراحل التعليم العام من الروضة إلى الثانوية، إلى جانب تعلم لغة أجنبية واحدة على الأقل، وغرس أهمية اللغتين معاً منذ الصغر. وقد تكون هناك مرحلة ثانية يتمّ فيها التشديد على التزام كل الجامعات في الدول العربية بتعليم مقرر إجباري في اللغة العربية لكل التخصصات، إلى جانب تأكيد أهمية تعلم اللغات الأجنبية. وقد تأتي مرحلة ثالثة تعتبر إجادة اللغة العربية ولغة أجنبية إجادة تامة، وبالمستوى نفسه شرطاً أساسياً للحصول على الدرجة الجامعية الأولى. في غمار هذه المراحل المتتابعة والمتداخلة تكون عمليات الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، و" السعي لتوحيد المصطلحات العلمية والحضارية "، قد قطعت شوطاً متقدماً، يسمح باتخاذ القرار النهائي باعتماد اللغة العربية لغة للتعليم في الجامعات في الدول العربية، على أرضية صلبة تحول دون الانتكاس أوالنكوص.