الحادثة:
عن خولة بنت مالك بن ثعلبةَ، امرأة أوسِ بن الصَّامت، قالت: فيَّ – والله – وفي أوس بن الصَّامت أَنزل الله صدْر سورة المجادلة.
قالت: كنتُ عنده، وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقُه وضجر، فدخَل عليَّ يومًا فراجعتُه بشيءٍ فغضِب، وقال: أنتِ عليَّ كظهْر أمِّي – وكان الإيلاء والظِّهار من الطَّلاق في الجاهليَّة – ثمَّ خرج فجلَس في نادِي قومِه ساعة، ثمَّ دخَل عليَّ فإذا هو يُريدُني.
قالت: فقلت: كلاَّ والَّذي نفسي بيده، لا تخلُص إليَّ وقد قلتَ ما قلتَ حتَّى يحكُم الله ورسولُه فينا، فواثَبني فامتنعتُ منْه فغلبتُه بما تغلِبُ ُ الشَّيخَ الضَّعيف، فألقيتُه عنِّي.
ثمَّ خرجتُ إلى بعضِ جاراتي، فاستعرْتُ منها ثيابًا، حتَّى جئتُ رسولَ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – فجلستُ بيْنَ يديْه فذكرتُ له ما لقيتُ منه، وقالت: يا رسول الله، إنَّ أوس بن الصَّامت أبو ولدي، وأحبُّ النَّاس إليَّ، والَّذي أنزل عليْك الكتاب ما ذكر طلاقًا، قال: أنتِ عليَّ كظهْر أمِّي.
قالت: فجعَلَ رسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – يقول: ((يا خويْلة، ابن عمِّك شيخ كبير فاتَّقي الله)).
وفي رواية: فسألتُ رسولَ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – فقال: ((حرُمتِ عليْه))، فقالت: والله ما ذكر طلاقًا، ثمَّ قالت: إلى الله أشكو فاقتي ووحْدتي ووحْشتي، وفراقَ زوْجي وابن عمِّي، وما يشقُّ عليَّ من فراقه.
قالت: فوالله، ما برحتُ حتَّى نزل فيَّ القرآن، فتغشَّى رسولَ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – ما كان يتغشَّاه ثمَّ سرِّي عنْه، فقال: ((يا خويْلة، قد أنزل الله فيكِ وفي صاحبك))، ثمَّ قرأ عليَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ إلى قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المجادلة: 1 – 4].
وفي رواية: فما زالت تُراجعه ويُراجعُها حتَّى نزلت عليْه الآية.
قالت: فقال رسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((مُريه فليُعْتق رقبة))، قالتْ: فقلتُ: يا رسول الله، ما عنده ما يُعتق، قال: ((فليصُم شهرَين متتابعَين))، قالت: فقلتُ: واللهِ، إنَّه لشيخٌ كبير ما به من طاقة، قال: ((فليطْعِم ستِّين مسكينًا وسقًا من تمر))، قالتْ: فقلتُ: يا رسول الله، ما ذاك عنده، قالت: فقال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلم -: ((فإنَّا سنعينُك بعَذَق من تمر))، قالتْ: فقلتُ: يا رسول الله، وأنا سأُعينه بعذق آخر، فقال: ((قد أصبتِ وأحسنتِ فاذْهبي فتصدَّقي به عنْه، ثم استوصي بابْنِ عمِّك خيرًا))، قالت: ففعلتُ[1].
لا تَزال روْعة البيان النبويِّ والحكمة المحمَّدية تتدفَّق معينًا صفيًّا على مدار الزَّمان ولِجميع الأفهام، ومن الخَلل والخطَل أن نكتفي بما مَرَّ من اقتِباس مع إمكانيَّة الاستِمْرار في استخراج الكنوز ونشْرها بين الأنام، لنعيش نشْوة الفهْم من جهة، ونحمل نور الحقِّ إلى الكون من أخرى ولكي لا يُحرم من لذيذ الخطاب في السنَّة والكتاب، ولا يفوته عبيرُ المعنى ورحيق الاهتِداء، فيبْقى محرومًا في الدنيا والأخرى ولذا بقدْر ما يشعر المتأمِّل في النصوص بعظيم المقال يحسُّ – ولو عن بعدٍ – بكبير حرمان مَن لم يوفَّق للعيش بين آيةٍ وحديث.
حادثة الظهار، والَّتي وقعت كحادثة عينٍ بين يدَي النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – تعْطِي قبسًا من نورٍ يتوهَّج ويتلألأ مهْما كانت شدَّة الظَّلام، ولو كان انهيارًا في الاقتِصاد أو دمارًا في الأموال، نُشير إلى ذلك أو بالأحْرى نهتدي بذلك من خلال وقفاتٍ على ظلال كلمات خير مَن نطَقَ بالضَّاد، نرسل منها توجيهات – إن صلحتْ – للمسؤولاتِ عن إدارة البيوت وشؤون الأسر من الزَّوجات، وخاصَّة اللاتِي يبحثن عن حلٍّ لأزمات ماليَّة وعواصف اقتصاديَّة تمرُّ بها بيوتهن، واللهَ مولانا نسأل أن يوفِّقَنا إلى الصواب، والقارئَ الكريمَ إلى حسن الاهتِداء وجميل الاقتِداء بخير الورى – صلَّى الله عليه وسلَّم.
الانهِيار مصيبة.. ولكن:
لا يخلو بيتٌ من مشكلة، وقلَّما تعيش أسرةٌ ولا تمرُّ بها مصيبة تكاد تذهب بها على مرِّ السنين، وهذه طبيعة الدُّنيا فهي دار نكد وتعَب، غير أنَّ المصائب تتفاوتُ، وكذا موقف النَّاس منْها يتفاوت، فهناك من المصائب والمشاكِل ما يحتمل ويُمكن التَّعامل معه والصَّبر عليه، وهناك ما لا بدَّ له من مخرج ولا يصحُّ البقاء عليه، في قصَّة الصَّحابيَّة الفاضلة والزَّوجة الحريصة السَّابقة – رضوان الله عليها – وقعتْ مشكلة في بيتٍ يظْهر عليْه – وبجلاء – وضْع اقتِصادي منهك ومتدهْور، فها هي تَخرج فلا تجِد ثيابًا إلاَّ أن تستعير من جارتها، وها هي تقرُّ أنَّ زوجَها لا يجد وسقًا من تمر، فوقعتْ مشكلة لو أرادت أن تجعل منها القشَّة لقصمتْ بها ظهر بعير بيْتِها، وتركته مكسورًا، لو كانت تُريدها فرصة للخروج من هذا الوضْع المزري.
فقد ذهبت تشكو، ولكن ماذا تشكو؟ لَم تشتكِ من جوع وحرْمان وقلَّة ذات يد زوجِها، وهي محقَّة إن فعلت، ذهبت تشْكو عندما كان الأمر متعلِّقًا بدينِها، فالفقْر مصيبة، لكن مصيبة دون مصيبة، فمنها ما تَهون، والصَّبر على فوات شيءٍ من الدنيا ممكن، لكنَّ الصَّبر على معصية الله تعالى، ورسولِه – صلَّى الله عليْه وسلَّم – ولوْ مع الغِنى والتَّرف والتلذُّذ بملذَّات الدنيا، لا يُمكن عندما يعيش المرْء ويسعى ليحقِّق العبوديَّة لله، والاتِّباع لرسولِ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم.
إنِ افتقرتْ بيوتٌ بعد غنى – وكثيرًا ما يحصل – أو نزلتْ بأُسَر مصائب أذهبتْ عنْهم كثيرًا ممَّا كانوا يتمتَّعون به من نَعيم الدنيا، فلا يَعني نهاية الحياة ولا الموْت جوعًا.
وهنا الفرْق – والله – واضحٌ بين زوجةٍ تبحث عن أيِّ مبرر، وعن أتفه مشكلة لتبتعِد عن الزَّوج في محنتِه الماليَّة، وبين تلك التي تزداد قربًا وتعاوُنًا ونصرًا لزوْجِها في محنتِه، إنَّ افتقار أسرة ماليًّا مصيبةٌ لكنَّ المصيبة الأكبر أنْ تفتقِر من المودَّة والأُلْفة والتَّراحُم والتَّعاون والمؤازرة، والأدهى والأمَرُّ أنَّ البعض تقيم دنياها ولا تُقْعِدها عند المصائب الماليَّة، ولا يهتزُّ لها عرق إذا أصيبت في دينِها، فهذه لا حديثَ عنْها غير أن نقول لها: مُصيبة الزَّوج فيك أكبر من مصيبتِه في مالِه واقتِصاده، فكان الله في عونه!
الانهيار لا يفسد للودِّ قضيَّة:من أسْمى العلاقات في الكوْن العلاقة بين الزَّوجين، فهي أساسًا تقوم على المودَّة والرَّحمة والتَّعاون، وتكون مصدرًا لتكْوين أسرة تمدُّ المجتمع بطاقات ومواهب متعدِّدة، يرتقي بها فلذلِك فالمجتمع القوي هو عبارة عن مجموعةٍ من الأسر القويَّة، والأسرة القويَّة مصدرها الرَّئيس الزوجان، فإذا ما كانت حياة الزَّوجين تمرُّ بسلام بل بوِئام، ثمَّ حصل ما يعكِّر صفوَها، من فقر ونحوه، من اختِلال في الوضْع الاقتصادي، فإنَّما هي عبارة عن عقبات لا توقف سير قافلة الأُسرة بقدْر ما تقرِّب بين أفرادِها، فالمحن تجمع الأحبَّة، هذا عند مَن يعرف أنَّ الغنى والفقْر قضيَّة، وإن كانت مهمَّة لكنَّها لا تكون عنصر تقْييم الأسرة، ولا أساس التَّرابُط بين أفرادها، فكم من أُسَر من أفْقر ما تكون البيوت إلاَّ أنَّها روحيًّا وأخلاقيًّا ومودَّة ومحبَّة في قمَّة الهرم!
أمَّا مَن كانت معايير تعامُلاته قائمةً على أساس مادِّي، فهذا لا يصلح أن يتولَّى بناء أسرة، وعندما نقول: بناء أُسرة، لا نعني جمْعَ عددٍ من البشر تحت سقف واحد، وتوفير طعامهم وشرابهم ولباسهم، إنَّما نعني بناء أسرةٍ تربويًّا وأخلاقيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا، بناء أسرة تضخُّ المجتمع بعددٍ من الأشخاص الخيرين الصَّالحين المصلحين.
ها هي زوْجة الرجُل الشَّيخ الكبير الطَّاعن في السن، والذي ساء خُلقه، تَعيش حالة من الفقر صعبة، لكن تلك الحالة لم تؤثِّر في قضيَّة حبِّها له وتعلُّقها به، بل والتَّصريح بذلك والحرص عليه، فقالت: أبو ولدي وأحبُّ النَّاس إليَّ، وهي تكلِّم رسولَ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – وقالتْ لمَّا أخبرها النَّبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّها حرمتْ عليْه: "إلى الله أشْكو فاقتي ووحْدتي ووحْشتي، وفراق زوْجي وابن عمِّي، وما يشقُّ عليَّ من فراقه".
لحظات صِدْق ما أروعها! لأنَّها قامت على حبٍّ صادق، وعاطفة حقيقيَّة لا تؤثِّر فيها الأوْضاع المادِّيَّة، ولا تتغيَّر بتغيُّر الوضْع الاقتِصادي لأحد طرفَي المعادلة، فكيْف إذا قامت القضيَّة من أساسها على معايير مادِّيَّة، كالزَّواج بموظَّفة لوظيفتها مثلاً، أو القبول بالغنيِّ لغناه فرضًا، لا شكَّ أنَّ النَّتيجة – والواقع يشهد – سيْلٌ من الخلافات وكَمٌّ من النِّزاعات، سببُها الرَّئيس المصْروف والمعاش، ولكن في قوانين المودَّة والرحمة لا يوجد باب لحالة أحدِ الزَّوجين المادِّيَّة، فلا الفقر ينقص من الحبِّ، ولا الغنى يزيد فيه.
الصبر وليس غير الصبر:بعد أيَّام جميلة، بل سنوات من الحياة الزوجيَّة الهانئة، وقعت الواقعة الاقتِصاديَّة وحصل لربِّ الأسرة ما أضعفَ دخْلَه، أو أثْقل كاهله، أو أثَّر في معيشتِه، وتغيَّر الحال، وليس عن تقصير ولا تكاسُل، فحتَّى لا يذهب الهناء وتَغيب السَّعادة – والَّذي يعني ولا بدَّ حضور الشَّقاء والخصام – حتَّى لا يكون ذلك فلا مناص عن الصَّبر، ولو كان مُرًّا، فإنَّ عدم الصبر وإعلان التضجُّر يزيد المأساة ويوسع دائرة الألم، ويفتح بابًا لمشاكل لم تكن موجودة، وقبْل هذا فإنَّه قد يصل إلى مرْحلة خطرة من الاعتِراض وعدم التَّسليم لقضاء الله وقدره، فالصَّبر علاج لتمرَّ الأزمة بسلام وإن طالت، والصَّبر هنا يعبِّر بوضوح عن وفاء الشَّريكين لبعضهما، وعن حبِّهما الحقيقي، مثل ما فعلتْ خولة – رضِي الله عنْها – فقد قالت: "والذي أنزل عليْك الكتاب، ما ذكر طلاقًا"، وقالتْ لمَّا قال لها رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((حرُمتِ عليه))، قالت: "واللهِ، ما ذكر طلاقًا"، بل ما زالت تُراجعه ويراجعُها حتَّى نزلت عليْه الآية.
إن لم يعبِّر مثلُ هذا عن صبرها بل عن عظيم صبرِها ووفائها لزوْجِها، رغْم ما ذكرت عنْه من أنَّه ساء خلقه، وما ظهر من حالتِه المادية، فما هو تعْبير الصَّبر إذًا.
فكما قال المصطفى – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((الصَّبر ضياء))، وما أحوجَ البيوتَ إلى ضياء يُنير درْب الحياة فيها، وخاصَّة عند اشتِداد ظُلُمات المشاكل والخلافات، فالصَّبر على الوضْع، والصَّبر على غياب أو قلَّة بعض الحاجيات، والصَّبر بين أعْضاء قافِلة الأسرة على مَن معهم، فإذا صبروا فلينتظِروا النَّصر فالنَّصر مع الصَّبر.
المشاركة الإيجابية:
أكثَر من الصَّبر، وأصْدق من الكلام، وأوْضَح من الشِّعارات: أن تُقدَّم مشاركات فعليَّة نحو تحْسين الوضعيَّة من جميع أفراد الأسرة، وكلٌّ بحسبه، ومهْما كانت قليلةً أو عادية إلاَّ أنَّ تأثيرها على الحياة الزوجيَّة كبير وفعَّال، فالزَّوجة التي تكون مشاركتُها معنويَّة بمثل أن تخفِّف عن زوجها حُزْنَه وألَمه، بأن تُعْلِن له استِعْدادها أن تَعيش معه على أيِّ حال، إنَّ هذه الزَّوجة لا تقوم فقط بإعْلان الاستِعْداد للمشاركة، بل تقوم بطمْأنة الزَّوج ورفع جزء كبير من همِّه إذ همُّ البيت يفوق أيَّ همٍّ، وتُرسل رسائل نفسيَّة تغرس السَّعادة غرسًا في قلْب الزَّوج، وإن كان في ظروف قاسية، وكذلك التي تُوقف الطلبات وتعْلِن الرِّضا والسُّرور بما جادت به أيْدي زوجِها، مهْما كان قليلاً أو متواضعًا، إنَّها تقوم بمهمَّة إشْعار الزَّوج بأنَّه رغْم ما يمرُّ به من ظروف استطاع أن يؤدِّي لبيتِه ما يُرْضيهم ويسدُّ حاجتَهم، فيرتاح نفسيًّا حتَّى لا يجمع بين فقْر وقلق، وأزْمة اقتصاديَّة وحرب نفسيَّة.
في حادثة الظِّهار يظْهر الدَّور الإيجابي للزَّوجة في صور شتَّى، منها: أنَّها لم تشتكِ من فقْرِه، وترْك التشكِّي إيجابية وأي إيجابية، فالَّتي لا تعرف إلاَّ البكاء والتشكِّي تَجعَل حياتَها وبيتَها جحيمًا لا يُطاق، ولَم يتغيَّر الحال بشكْواها ودموعها.
وأيضًا: مراجعتها للنَّبيِّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – وعدم استِسلامها لأمر الفراق، ومن الصُّور الإيجابية لها أنَّها راجعت النَّبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ودافعتْ عن زوجِها في عدَم قُدرتِه على الكفَّارة، فلا يَملك رقبةً، ولا طاقةَ له على الصِّيام، وما عنده ما يُطعم به، كلُّ هذِه المبرِّرات قدَّمتْها بين يدَي رسول الله مدافِعةً عن زوجها معتذِرة له.
وأبرز مشاركة إيجابيَّة لها تظهر في الحادِثة قولُها: "وأنا سأُعينه بعذق آخر"، لمَّا قال لها رسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم –: ((فإنَّا سنُعينُك بعَذَق من تمر)) لتخفِّف عن زوجِها من جهةٍ، وتُثبت ولاءَها وحبَّها وصدق مشاعرِها وإيجابيَّتها من جهة أخرى.
الواقعيَّة حلٌّ:تَعيش بعضُ الأسر وخاصَّةً الزَّوجاتِ – إلى جانب مشكلتِها الاقتِصاديَّة – مشكلة نفسيَّة، وهي التشبُّع بما لم يُعطَين، والظِّهور بخلاف الواقع والحال، فتتكلَّف فوق طاقتها ما يزيد من مأساتِها وأوجاعها، لا لشيءٍ إلاَّ للظُّهور بصورة معيَّنة، وإن كانت خلافَ الواقِع بل وبعيدة عن الحقيقة، والأمرُ في حقيقتِه وإن طال سيظْهر وينكشف الغِطاء، لكن بعض العقول قصيرة النَّظَر عديمة الصَّواب، فإِلى جانب التَّبِعات الماليَّة النَّاتجة عن عدم الواقعيَّة تظهر مشاكل أسريَّة وخلافات حادَّة، وأكْبر من ذلك التَّربية الخاطِئة، والتي سيعيشُها الأبناء في جوٍّ فاسد كهذا، فتنشأ نفسيَّات قابلة لسياسة النفاق، وناقِمة على نفسها وعلى من حولها، ويَقْوى فيها الحسُّ المادِّي، ويضعف عندها التعلُّق بالآخرة، ويختلُّ ميزان النَّاس في قاموسها، وكلُّ هذه وغيرها بلايا بسبب عدم الواقعيَّة.
المرْأة الصحابيَّة – رضوان الله عليْها – في حادثتِنا تتحدَّث وتتحرَّك بكل واقعيَّة، فهِي تقول عن زوجها: "كان شيخا كبيرًا قد ساء خلُقه وضجر"، تعتذر له أوَّلاً بأنَّه أصبح شيخًا كبيرًا، ثمَّ تقول الواقع: "ساء خلقه"، وواقعيَّة في نقلها للحال لا تزيد ولا تنقص، ولا تضخِّم ولا تهول: "فواثبَني فامتنعتُ منْه، فغلبتُه بما تغلب الشَّيخ الضَّعيف، فألقيتُه عنِّي"، فكَم من بيتٍ تهدَّم بسبب التَّهويل والتَّضخيم لنقل حالة عادية! أمَّا واقعيتها في ذكر حالة زوجِها المادية، وكذلك واقعيَّتها في حرصها على زوجها، وعدم رغبتِها في فراقه، ووجْدها عليه، فقد مرَّت وبرزت، وتلمح مِن تأمل سريع، فالواقعية تُريح البال وتعين على الحل، وتوقف النَّزيف النَّاتج عن التشبُّع بغير الحقيقة، المادِّي والأخلاقي والاجتماعي.
إلى الرَّحمن أتوجَّه بسؤاله التَّوفيق والسَّداد، وصلاح الدِّين والدُّنيا والآخِرة لجميع المسلمين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] – الإصابة، ابن حجر، 8 /69، تفسير القرطبي، 17 /259، جامع البيان، 28 /4، سنن أبي داود رقم 2214.