ولكن القانون الإلهي المنزل للبشرية يتمتع بالرقابة الإلهية، وهذه الرقابة تملك صفاتٍ خاصةً لا ينالها أي قانون آخر، وتتمثل في:
1- أنها عامة تشمل كل شيء ولذا يصفها الله عزّ وجلّ بالتالي: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) (الأحزاب/ 52).
2- أنها لا تحيط بها موانع تعيق قيامها أو تحققها.
3- تعدد الشهود والرقباء، قال تعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) (فصلت/ 19-22).
مضافاً إلى ما تقدّم مما يمتاز به القانون الديني الإسلامي، فإنّ الإسلام سعى لتقوية عنصر الرقابة الذاتية لدى الإنسان المسلم. وهذا العنصر هو من أقوى ما يمكن أن يشكل ضمانةً لعدم اختراق القانون، لأنّ الإنسان الذي لا يمكنه أن يخفي عن نفسه ارتكابه للإثم أو مخالفته للشرع، وإن أمكنه أن يخفي ذلك عن الناس، أو أن ينسى الله عزّ وجلّ في لحظة من اللحظات، لن يُقدم على المخالفة وارتكاب الذنب.
وأما كيف تكون المراقبة، فيذكر علماء الأخلاق أنها تتحقق بأن يراقب نفسه عند الخوض في الأعمال، فيلاحظها بالعين اللائمة والمعاتبة، فإنّها إن تُركت طغت وفسدت، ثمّ يراقب كل حركة وسكون، عالماً أنّ الله تعالى مطلع على الضمائر، عالم بالسرائر، رقيب على أعمال العباد، قائم على كل نفس بما كسبت، وأن سر القلب في حقه مكشوف، كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف.
عندما نتحدث عن ضرورة مراقبة النفس، فلا يتوهمن أحد أنّ المراقبة تعني فقط الحذر من الوقوع في المعاصي والآثام، أي في الذنوب فقط، بل المراقبة ينبغي أن تكون في ثلاثة مواطن:
1- المراقبة في المعصية: بأن يفكّر الإنسان عندما يُقدم على أي فعل من الأفعال، فيحذر من أن يكون في ذلك معصية الله عزّ وجلّ. ولو زلت قدمه فوقع في المعصية راقب نفسه فسعى لإظهار الندم والتوبة، وإذا كان لغيره حق عليه أعاد له حقه.
2- المراقبة في الطاعة: فعندما يأتي بعبادة من العبادات أو طاعة من الطاعات وإن لم تكن عبادة، سعى لأن تكون خالصة لله عزّ وجلّ ولأن يقصد بها وجه الله، وأن يحذر من الوقوع به الإتيان بها بما يوجب بطلانها، كما لو أحسن إلى إنسان، ثمّ ابتدأ بالمنّة عليه وإظهار ما له من الفضل عليه. فإن طاعته تذهب هباء.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة/ 264).
و(المن): أن يرى نفسه محسناً، ومن ثمراته الظاهرة: الإظهار، والتحدث به، وطلب المكافأة منه، بالشكر والخدمة والتعظيم، و(الأذى): التعيير، والتوبيخ، والاستخفاف، والاستخدام، والقول السيِّئ، وتقطيب الوجه.
والتشبيه الوارد في الآية هو بأن تتصور قطعة حجر صلد تغطيه طبقة خفيفة من التراب، وقد وُضعت في هذا التراب بذور سليمة، ثمّ عُرض الجميع للهواء الطلق وأشعة الشمس، فإذا سقط المطر المبارك على هذا التراب لا يفعل شيئاً سوى اكتساح التراب والبذور وبعثرتها، ليظهر سطح الحجر بخشونته وصلابته التي لا تنفذ فيها الجذور، وهذا ليس لأن أشعة الشمس والهواء الطلق والمطر كان لها تأثير سيِّئ. بل لأنّ البذر لم تزرع في المكان المناسب، ظاهر حسن وباطن خشن لا يسمح بالنفوذ إليه، قشرة خارجية من التربة لا تعين على نمو النبات الذي يتطلب الوصول إلى الأعماق للتغذى الجذور.
3- المراقبة في المباحات: وذلك من خلال المواظبة على رعاية الآداب الشرعية في المباحات، فإن لكل فعل مباح من الأكل، الشرب، النوم، السفر… إلخ، آداباً خاصةً إذا سعى الإنسان للمحافظة عليها تمكن من أن يكون من المراقبين لأنفسهم.