يجلب كل فصل من فصول السنة الأربعة، شكلاً معيناً من الأمراض، والعلاقة بين مرض معين وفصل ما، ليست من ابتكار هذا العصر، فالعالم الإغريقي أبقراط الملقب بأبي الطب، أشار إلى وجود مثل هذه العلاقة عام 400 ق.م.
هناك علاقة ما بين بعض الأمراض الوبائية في العالم وفصول السنة المختلفة، وصحة الإنسان تتأثر بمناخ كل فصل ولكن بصورة متفاوتة تتباين من شخص إلى آخر.
عندما ندخل فصل الخريف، فإن رياح التغيير البيئي تلوح في الأفق، فيتم الانتقال من جو حار إلى جو معتدل، ولكنه طقس متقلب في شكل واضح بين الليل والنهار، وفي هذا الفصل بالذات يكون الجهاز المناعي على موعد لاختبار كفاءته في تحدي الأمراض الشائعة في هذا الفصل.
ففي فصل الخريف تجد بعض الفيروسات والجراثيم المتناثرة هنا وهناك، خصوصاً في الأماكن العامة، الفرصة سانحة للانقضاض على ضحاياها. ونزلات البرد هي الأكثر حدوثاً في الخريف، وعندما تتمكن الفيروسات المسببة لها من اختراق دفاعات الجسم تظهر اللوحة السريرية التي لا تخفى على أحد وتتمثل في زوبعة من العوارض مثل ارتفاع بسيط في الحرارة، واحتقان الأنف والحنجرة، وسيلان الأنف، والعطاس المتكرر. وأحياناً قد تخلف نزلات البرد بعض المضاعفات خصوصاً عند فئات معينة من الناس مثل العجزة، والخدج، والأشخاص الذين يعانون من نقص في المناعة، ومرضى الكلى والداء السكري.
ومن الزوار الغليظين في فصل الخريف داء الأنفلونزا، الذي يكون أكثر هجومية من نزلة البرد، فالشخص يكون في حالة جيدة، ولكنه لا يلبث أن يعاني فجأة من ارتفاع شديد في الحرارة، وصداع قوي، وآلام مزعجة في عضلات الظهر والذراعين، والسعال، والإرهاق الشديد.
وفي فصل الشتاء تكثر أيضاً أمراض الرشح والأنفلونزا، إلى جانب أمراض أخرى تطاول خصوصاً الجهاز التنفسي الذي يكون على اتصال دائم مع الوسط الخارجي من خلال عمليتي الشهيق والزفير، وهذه الأمراض تنتشر بسرعة بين الناس في هذا الفصل لتوفر عوامل تساهم في خلق بيئة صالحة لتلوث الجو بالفيروسات والميكروبات، مثل إغلاق النوافذ، وعدم التهوئة، وقلة الشمس، والأماكن المزدحمة. ويعتبر الأطفال من أكثر الفئات تعرضاً للأمراض الشتوية خصوصاً في المدارس ودور الحضانة.
وفي الشتاء تتلبد السماء بالغيوم، ولا تظهر الشمس إلا في المناسبات، ويخفت الضوء، وتقل ساعات النهار، وتؤدي هذه التقلبات الطقسية والجوية، الى دخول بعضهم في دوامة نفق مظلم يسوده مزيج غريب من العوارض المنغصة التي تعرف في عالم الطب باسم الكآبة الشتوية.
وتتظاهر الكآبة الشتوية على شكل انهيار حاد، يغمره الحزن والقلق، والرغبة العارمة في العزلة، وتراجع النشاط، وفقدان الاهتمام بالآخرين، وصعوية التركيز واليقظة، وقلة الحيلة، والشعور بالتشاؤم والإحساس بالذنب، وارتفاع الشهية على الطعام خصوصاً الحلويات، والأخطر من هذا ظهور الميول الانتحارية. وحتى الآن لا أحد يعرف بالضبط السبب الحقيقي لمرض الكآبة الشتوية، ولا لماذا يصاب أشخاص معينون دون غيرهم، وعلى ما يبدو أن نقص كمية الضوء هو الشرارة التي تشعل فتيل المرض.
أما الربيع فصل تفتح الزهور والمروج الخضراء والجو اللطيف، ففيه تتكاثر جميع الكائنات الحية بما فيها الفيروسات والجراثيم التي تنتشر بسرعة وتطاول عدداً غير قليل من الناس، خصوصاً في شهري آذار (مارس) ونيسان (ابريل). ويتصدر داء النكاف (أبو كعيب) قائمة أمراض الربيع، إذ تنطلق العوامل الممرضة من أنف المصاب وحلقه عبر الرذاذ المتطاير فتتفشى العدوى وتنتشر في الأماكن المغلقة، خصوصاً تلك التي تشهد تجمعات الأطفال.
ومن الأمراض الأخرى التي يحملها الربيع معه أمراض الحساسية، فحبوب اللقاح المتطايرة في الجو، والأتربة الناعمة، والفيروسات والفطريات، قد تسبب ردود فعل ارتكاسية تحسسية عند الكثيرين خصوصاً الأطفال والمسنين الذين يملكون أجهزة مناعية ضعيفة. وقد تلازم أمراض الحساسية صاحبها طوال حياته، أو تخف بعض الشيء مع التقدم في العمر، أو قد تذهب إلى غير رجعة، أو قد تسير نحو الأسوأ.
وتعتبر حبوب اللقاح (غبار الطلع) مسؤولة عن 60 في المئة من حساسية الأنف والعين والصدر والجلد، وكل حبة تستطيع الطيران على أجنحة الرياح لمسافة أكثر من 150 كيلومتراً. وحبوب اللقاح هي أجسام متناهية في الصغر تنتجها النباتات، وأعلى تركيز لها في الجو يكون بين الساعة 10 والساعة 12 صباحاً.
ومن الأمراض التي تتزامن مع فصل الربيع الرمد الربيعي، الذي يطاول الكبار والصغار، ويتظاهر في شكل حكة، واحمرار في العينين، وزيادة إفراز الدموع، وقد تتشكل بروزات مفلطحة على ملتحمة العين، خصوصاً الجفن العلوي.
وجدري الماء يكون حاضراً بقوة بين الأطفال في فصل الربيع، وهو ينتشر من طريق الملامسة، والهواء المحمل بالرذاذ المتطاير من المرضى، وأيضاً بواسطة الأشياء الملوثة. ومن أبرز مظاهر جدري الماء الاندفاعات الجلدية المائية الحاكة جداً.
ماذا عن فصل الصيف؟
يقال إنه أفضل الفصول وقعاً على الصحة، إذ ترتفع الحرارة، وتعم الأجواء المشمسة التي تعود بالكثير من المنافع على الجسم. صحيح ان الصيف هو فصل المتعة والإجازة والترويح عن النفس، ولكنه لا يخلو من المتاعب.
إن الصيف هو فصل ضربة الشمس، والإصابات الجلدية، والنزلات المعوية، والأمراض المرتبطة بالتسممات الغذائية، خصوصاً تلك التي تتطور في شكل سريع قد لا يسمح أحياناً حتى بنقل المصاب إلى المستشفى للعلاج المناسب، وإذا أصابت هذه التسممات الأشخاص المسنين أو الأطفال والحوامل فكان الله في العون.
وأجواء فصل الصيف قد تعج بالدخان الضبابي الذي يخيم على المدن، خصوصاً في ساعات الصباح الأولى، ويعبق هذا الدخان بالملوثات الآتية من كل حدب وصوب مسببة ظهور مشاكل صحية تنعكس سلباً على صحة الرئتين والقلب، وقد أفادت دراسات بوجود علاقة ما بين التعرض المتزايد للهواء الملوث المشبع بالجسيمات الدقيقة وزيادة خطر الإصابة بالسرطان.
ختاماً، لا بد من التنويه بعدد من الملاحظات:
– قد يعيش الإنسان الفصول الأربعة في يوم واحد، ما بين برد شديد، ومطر غزير ورعد وبرق، ورياح عاتية محملة بالأتربة، وجو ربيعي ذي نسمات عليلة، وطقس دافئ تتخلله هبات ساخنة، فتكون النتيجة الإصابة بالكثير من المطبات الصحية سواء للأشخاص العاديين أو للمرضى.
– إن عامل الجو يؤثر في الرغبة في القراءة، فهذه الأخيرة تزداد خمس مرات في الجو الماطر عنه في الجو الحار، فالنشاط العقلي يصل إلى قمته في الجو الرطب، في حين انه يتداعى في الجو الحار الذي يتسم بالرخاوة واللامبالاة وعدم الاكتراث.
– إن الرياح لا تخلو من ترك آثار على الصحة، ففي جنوب فرنسا مثلاً تعد الرياح الرطبة أحد الأسباب المؤهبة للإصابة بالشقيقة (الصداع النصفي)، ونوبات الربو، وداء الصرعة، وأمراض الروماتيزم. كذلك الرياح الحارة في إيطاليا تحرض على حدوث الأزمات القلبية عند المرضى.
– إن مرض نقص التروية القلبي يتأثر بعامل الضغط الجوي، فعدد المصابين يقفز في شكل ملحوظ عند نزول الضغط الجوي، وهناك باحثون يؤكدون ان غالبية الأزمات القلبية والدماغية تقع في لحظة حدوث انخفاض مفاجئ في الضغط الجوي.
– هناك علاقة ما بين الحالة المزاجية للشخص والطقس المهيمن في الفصول الأربعة، فمثلاً تبين أن نسمات الربيع تثير العواطف الرقيقة وتبعث على النشاط والراحة النفسية. في المقابل، فإن برد الشتاء القارس وحرارة الصيف الحارقة يرتبطان بالانفعالات النفسية الحادة. في حين أن فصل الخريف يرتبط في الأذهان بالهدوء والسكينة.