خالد بن محمد السليم
الحمد لله رب العالمين ,والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً. وبعد:
فإنّ أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق ما تعلق بأشرف معلوم : وهو الله جل جلاله وتقدست أسماؤه
فالعلم بأسمائه وصفاته والتفقه فيها رأس العلم وأساسه ؛ فالعلم علمان : علم بالله , وعلم بأمره وشرعه . و الآخر راجع إلى الأول وصادر منه ,فالعلم بأسمائه أصل كل معلوم ,كما أن جميع المخلوقات والموجودات , والأوامر الشرعية ترجع على معاني هذه الأسماء .
بيَن ذلك وجلاه ابن القيم -رحمه الله – حيث قال[1] :
"فإحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم فإن المعلومات سواه إما أن تكون خلقا له تعالى أو أمرا إما علم بما كونه أو علم بما شرعه , ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى , وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه , فالأمر كله مصدره عن أسمائه الحسنى, وهذا كله حسن لا يخرج عن مصالح العباد والرأفة والرحمة بهم والإحسان إليهم بتكميلهم بما أمرهم به ونهاهم عنه , فأمره كله مصلحة وحكمة ولطف وإحسان إذ مصدره أسماؤه الحسنى . وفعله كله لا يخرج عن العدل والحكمة والمصلحة والرحمة إذ مصدره أسماؤه الحسنى فلا تفاوت في خلقه ولا عبث ولم يخلق خلقه باطلا ولا سدى ولا عبثا، فمن أحصى أسماءه ـ كما ينبغي للمخلوق ـ أحصى جميع العلوم لأنها من مقتضاها ومرتبطة بها , وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى ولهذا لا تجد فيها خللا ولا تفاوتا "
ويقول أيضاً رحمه الله [2] :" وإذا اعتبرت المخلوقات والمأمورات وجدتها بأسرها كلها دالة على النعوت والصفات وحقائق الأسماء الحسنى .وعلمت أن المعطلة من أعظم الناس عمى بمكابرة .ويكفي ظهور شاهد الصنع فيك خاصة كما قال تعالى ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) [3] فالموجودات بأسرها شواهد صفات الرب جل جلاله ونعوته وأسمائه , فهي كلها تشير إلى الأسماء الحسنى وحقائقها, وتنادي عليها وتدل عليها وتخبر بها بلسان النطق والحال كما قيل :
تأمل سطور الكائنات فإنها من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل
تشير بإثبات الصفات لربها فصامتها يهدي ومن هو قائل
فلست ترى شيئا أدل على شيء من دلالة المخلوقات على صفات خالقها ونعوت كماله وحقائق أسمائه وقد تنوعت أدلتها بحسب تنوعها فهي تدل عقلا وحسا وفطرة ونظرا واعتبارا "
بل جنايات العبيد ومعاصيهم بتقدير الله لهم من أدل الشواهد على أسمائه وصفاته وسر من أسرار هذه الأسماء .قال ابن القيم :[4]
"إذا عرف هذا فمن أسمائه سبحانه الغفار التواب العفو فلا بد لهذه الأسماء من متعلقات ولا بد من جناية تغفر وتوبة تقبل وجرائم يعفى عنها وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله ويحلم عنه ويتوب عليه ويسامحه من موجب أسمائه وصفاته وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك وما يحمد به نفسه ويحمده به أهل سمواته وأهل أرضه ما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده …فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر تبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد وتقديرها هو من كمال الأسماء والصفات والأفعال وغايتها أيضا مقتضى حمده ومجده كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة والآيات الباهرة "
ولهذه الغايات العظيمة تعرف الله إلى عباده بها كثيرا فأفرد الأسماء وقرنها ,واستفتح بها آية وختم بها أخرى وما ذاك إلا "لأن لكل اسم منها له تعبد مختص به علما ومعرفة وحالا وأكمل الناس عبودية المتعبد بجميع الأسماء والصفات التى يطلع عليها البشر فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر كمن يحجبه التعبد باسمه القدير عن التعبد باسمه الحليم الرحيم… , وهذه طريقة الكمل من السائرين إلى الله , وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن قال الله تعالى ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها)[5]
والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ودعاء الثناء , ودعاء التعبد وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته ,ويثنوا عليه بها ويأخذوا بحظهم من عبوديتها , وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته فهو عليم يحب كل عليم جواد يحب كل جواد وتر يحب الوتر" [6]
فمن تأمل أسرار هذا العلم أوقفه ذلك على رياض من العلم بديعة , وحقائق من الحكم جسيمة وحصل له من الآثار الحميدة الزاكية ما لا يحاط بالوصف ولايدرك إلا بالذوق . وإليك بعضأَ منها:
أنه إذا علم العبد ربه وامتلأ قلبه بمعرفته أثمرت له ثمرات جليلة في سلوكه وسيره إلى الله , وتأدب معه ولزم أمره واتبع شرعه , وتعلق قلبه به وفاضت محبته على جوارحه ,فلهج لسانه بذكره . ويده بالعطاء له ,وسارع في مرضاته غاية جهده , ولا يكاد يمل القربة لله محب , فلم يبق في قلبه غير الله كما قيل :
قد صيغ قلبي على مقدار حبهم *** فما لحب سواهم فيه متسع
ومن أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من الله , والمحب لا يجد مع الله للدنيا لذة, فلم يثنه عن ذلك حب أهل أو مال أو ولد لأن هذه وإن عظمت محبتها في قلبه إلا أنه يدرك أنها بعض فضل الله عليه فكيف يشتغل بالنعم وينسى المنعم .
ومنها : أن منزلة العبد عنده سبحانه على قدر معرفته به , فتأمل معي كيف اختصت آية الكرسي بكونها أعظم آية في كلامه ـ جل وعز ـ,وكيف عدلت سورة الإخلاص ثلث القرآن ,مع أن المفضل عليه بعض كلام الرب ـ تبارك اسمه ـ فإذا تفاضل كلامه ببركة أسمائه كان تفاضل عبيده بسبب ذلك أدل وأحرى.
ومن الآثار الحميدة لهذا العلم الشريف أنه لا سعادة للقلب ولا سرور له إلا بمعرفة مولاه ومربيه وإلهه وبقدر علمه به واتباعه لهداه تعظم سعادته يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )[7]
ومن آثرها : أن من أحبَّها أحبَّه الله كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على سرية يصلي لأصحابه فكان يختم بسورة الإخلاص فلما سألوه قال :لأنها صفة الرحمن وأحب أن أقرأ بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبروه بأن الله يحبه" [8], كما أن من عمل بها , وحقق ما تقتضيه من فِعْل المأمورات وترك المحظورات كان من المقربين الذين أحبهم الله وتولاهم .
قال ابن القيم [9]: "لما كان (سبحانه) يحبّ أسماءه وصفاته : كان أحبّ الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبها، وأبغضهم إليه : من اتصف بالصفات التي يكرهها، فإنما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت ؛ لأن اتصافه بها ظلم،إذ لا تليق به هذه الصفات ولا تحسن منه ؛ لمنافاتها لصفات العبيد، وخروج من اتصف بها من ربقة العبودية، ومفارقته لمنصبه ومرتبته، وتعديه طوره وحدّه، وهذا خلاف ما تقدم من الصفات كالعلم والعدل والرحمة والإحسان والصبر والشكر،فإنها لا تنافي العبودية، بل اتصاف العبد بها من كمال عبوديته، إذ المتصف بها من العبيد لم يتعد طوره، ولم يخرج بها من دائرة العبودي"
ومنها : أنه كلما أدام ذكرها بقلبه ولسانه أوجب ذلك له دوام مراقبته وشاهد ربه بعين بصيرته ؛ فاستحيى منه ,وانكسر له ,فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة , وهي أعلى مقامات الدين
"وإذا بلغ العبد في مقام المعرفة إلى حدٍّ كأنه يكاد يطالع ما اتصف به الرب (سبحانه) من صفات الكمال ونعوت الإجلال، وأحست روحه بالقرب الخاص، حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربه، فإن حجابه هو نفسه، وقد رفع الله عنه ذلك الحجاب بحوله وقوته، فأفضى القلب والروح حينئذ إلى الرب، فصار يعبده كأنه يراه" [10] .
ومنها : أن التعرف على أسماء الله (تعالى) يسلم الإنسان من آفات كثيرة : كالحسد، والكبر، والرياء والعجب , كما قال ابن القيم [11] : (لو عرف ربّه بصفات الكمال ونعوت الجلال،لم يتكبر ولم يحسد أحداً على ما آتاه الله ؛ فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله ؛ فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، ويحب زوالها عنه والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته ) .
ومن أعظمها : أن من قام في قلبه حقائق هذه الأسماء , وتراءت معانيها لناظريه كان أعظم الناس تحقيقا للتوحيد , وأكملهم عبودية لرب العالمين , واستحال أن يصرف من أعماله شيئاً لغير مولاه .
ولذا يستدل ربنا جل في علاه على بطلان الشرك والأنداد بأسمائه الحسنى ؛تلحظ ذلك مثلاً في آخر سورة الحشر فبُعيد ذكره لعدد من أسمائه نزه نفسه عما أشرك به المشركون فقال : (سبحان الله عما يشركون) [12]وذلك لأن من له هذه الأسماء يمتنع أن يكون معه إله آخر .
ومن أجل هذه الثمرات أن من أحصى بعضاً منها حفظاً ,وفهماً , وعملاً ؛ استحق مأدبة الله العظمى ,كما صح بذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن لله تسعة وتسعين اسما , من أحصاها دخل الجنة) [13] .
وكل اسم من أسمائه سبحانه له معنى , وآثار , وهو ما سنعرضه في هذه النافذة تباعا ً بإذن الله
جعلني الله وإياكم ممن عرفه فخافه , وأحبه فأطاعه , وعلق به رجاءه ولم يلتفت لسواه ..آمين