بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أبشر.. أيها المريض
الحمد لله مقدر الأقدار، وكاشف الأسقام، ودافع الأكدار..
والصلاة والسلام على نبيه المختار، وآله الكرام وصحبه الأخيار..
أما بعد:
فإلى من شاء الله ابتلاءهم بالشدائد والكروب..
وإلى من أراد تمحيصهم بالأسقام علام الغيوب..
فذاك مريض فقد صحته..
وآخر حار في معرفة سقمه وفهم علته..
وثالث خارت قواه وزالت بشاشته..
وهم- مع ذلك-…ذاكرون شاكرون، وصابرون محتسبون.. وتأملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم : « عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، وإن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له » "رواه مسلم"
فوعوا الخطاب، وأعدوا له محكم الجواب
فكم من نعمة لو أعطيها العبد كانت داءه، وكم من محروم من نعمة حرمانه شفاؤه..قال تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم )[البقرة:216)
أخي المريض.. شفاك الله وعافاك، ومن كل سقم وبلاء حماك
قلب طرفك في هذه العجالة، وجل ببصرك بما فيها من عبارة ومقالة
فهي وقفات مطعمة بنور الوحي، ومعطرة بعبير الرسالة
أسأل الله تعالى أن يجعل في ذكرها عزاء، وفي دعائها شفاء، وفي أحكامها غناء
الوقفة الأولى.. المتاع الزائل
تلكم هي الدنيا التي اغتر بها كثير من الناس فجعلها منتهى أمله، وأكبر همه..وصفها ربها بقوله : { وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب } [العنكبوت: 64]
{ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } [الحديد: 20].
وبين خليله صلى الله عليه وسلم حاله معها بقوله : « ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها » [رواه الترمذي
ذلك أنه عرف منزلتها، وتبين له دنوها وحقارتها
قال صلى الله عليه وسلم : « لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة ماء » [رواه الترمذي
وهي مع ذلك لا يدوم لها حال، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرت يوما ساءت أياما ودهورا
لا يسلم العبد فيها من سقم يكدر صفو حياته، أو مرض يوهن قوته ويعكر بياته
ومن يحمد الدنيا لعيش يسره فسوف لعمري عن قليل يلومها
ولذلك كانت وصية من عرف قدرها صلى الله عليه وسلم « كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل » [رواه البخاري
وهكذا.. من عرف حقيقة الدنيا زهد فيها.. ومن زهد فيها هانت عليه أكدارها ومصائبها
الوقفة الثانية.. البلاء عنوان المحبة
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط » [رواه الترمذي
فالبلاء والأسقام إذا كانت فيمن أحسن ما بينه وبين ربه ورزقه صبرا عليها كانت علامة خير ومحبة
قال صلى الله عليه وسلم : « إذا أراد الله بعبده خيرا عجل له العقوبة في الدنيا.. » [رواه الترمذي
ومن تأمل سير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام- وهم من أحب الخلق إلى الله- وجد البلاء طريقهم، والشدة والمرض ديدنهم
دخل عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- على الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فقال: يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا، قال صلى الله عليه وسلم : « أجل، إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم.. » [متفق عليه
وسأله سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه-: أي الناس أشد بلاء؟، قال صلى الله عليه وسلم: « أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسن دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، وما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة » [رواه الترمذي
لقد تأمل السلف هذه العبارة، وأدركوا ما فيها من إشارة
فعدوا البلاء نعمة، والمرض والشدة بشارة
ولهذا لما مر وهب بمبتلى، أعمى مجذوم، مقعد عريان، به وضح، كان يقول: الحمد لله على نعمه، فقال رجل كان مع وهب: أي شيء بقي عليك من النعمة تحمد الله عليها؟ فقال له المبتلى: ارم ببصرك إلى أهل المدينة، فانظر إلى أكثر أهلها، أفلا أحمد الله أنه ليس فيها أحد يعرفه غيري
الوقفة الثالثة.. البلاء طريق الجنة
إن الأمراض والأسقام من جملة ما يبتلي الله تعالى به عباده، امتحانا لصبرهم، وتمحيصا لإيمانهم.. بل هي- لمن وفق لحسن التأمل والتدبر- نعمة عظيمة توجب الشكر
قال تعالى: { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } البقرة: 155- 157
الله أكبر.. أي فضل بعد صلوات الرب ورحمته وهداه ؟
وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقارض » [رواه الترمذي
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به من سيئاته كما تحط الشحرة من ورقها » [رواه مسلم
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة » [رواه الترمذي
وأتتامرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله تعالى لي، فقال: « إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ، فقالت: أصبر.. [متفق عليه
ودخل صلى الله عليه وسلم على أم السائب، فقال: « مالك يا أم السائب تزفزفين؟ » ، قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: « لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد » [رواه مسلم
قال ابن أبي الدنيا: كانوا يرجون في حمى ليلة كفارة ما مضى من الذنوب
أخي الحبيب.. لعل لك عند الله تعالى منزلة لا تبلغها بعملك، فما يزال الله تعالى يبتليك بحكمته بما تكره ويصبرك على ما ابتلاك به، حتى تبلغ تلك المنزلة..فلم الحزن إذا؟
الوقفة الرابعة.. الأجر الجاري
من لطف الله تعالى ورحمته أنه لا يغلق بابا من أبواب الخير إلا فتح لصاحبه أبوابا.. فعلاوة على ما يكتب للمرضى من الأجر جزاء ما أصابهم من شدة ومرض وصبرهم عليه، لا يحرمهم ثواب ما اعتادوا فعله من الطاعات إذا قصروا عنها بسبب المرض
فعن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما » [رواه البخاري
فأي كرم بعد هذا الكرم، وأي فضل أوسع من فضل مسدي النعم..؟
راحة العبد من العمل، وكتابة أجر ما كان يعمل
الوقفة الخامسة.. لا بد للعسر من يسر
هذه سنة الله تعالى في خلقه..ما جعل عسرا إلا جعل بعده يسرا
والأمراض مهما طالت وعظمت لا بد لأيامها أن تنتهي، ولا بد لساعاتها- بإذن الله- أن تنجلي..
قال وهب بن منبه: لا يكون الرجل فقيها كامل الفقه حتى يعد البلاء نعمة ويعد الرخاء مصيبة، وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء وصاحب الرخاء ينتظر البلاء
قال تعالى: ( فإن مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا)
[الشرح:5-6
الوقفة السادسة..غنيمة المرض
لو تأمل المريض فوائد مرضه وحسناته ما تمنى زواله
فبالرغم مما فيه من تكفير للسيئات، ورفع للدرجات، وكتابة أجر ما كان يعمل، من الصالحات، فيه أيضا فرصة عظيمة لمن وفق لاستغلال الأوقات
فالمريض يحصل له في حال مرضه من أوقات الفراغ ما لا يحصل له فيما سواه
فاحرص- رعاك الله- على استغلال أوقاتك فيما يقربك من الله تعالى، من قراءة للقرآن وحفظه، وطلب للعلم، واستزادة من النوافل، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ودعوة إلى الله
واعلم- شفاك الله وعافاك- أن المسلم مأمور باتباع أوامر الله تعالى في سرائه وضرائه، وفي حال صحته وبلائه
الوقفة السابعة.. النعم المغبونة
لا يقدر نعم الله تعالى إلا من فقدها
وكأني بك وقد أنهك المرض جسدك، وأذهب السقم فرحك، أدركت قوله صلى الله عليه وسلم : « نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ » [رواه البخاري
فالصحة من أجل النعم التي أنعم الله تعالى بها علينا، لا يقدرها إلا المرضى..
وهكذا.. فكم من النعم قد غفلنا عنها، وكم من النعم قد قصرنا بواجب شكرها..
وأجلّ تلك النعم وأعظمها.. نعمة الإيمان والهداية..
فكم من الناس قد غبنها، فلم يقوموا بواجب شكرها، وتكاسلوا عن الاستقامة عليها..
وحين تلوح لك بوادر الشفاء.. وتسعد ببدء زوال البلاء، اقدر لهذه النعم قدرها، واعرف فضل وكرم منعمها، وتدبر حالك عند فقدها أو نقصها، فأعلن بذلك توبة نصوحا من تقصيرك في شكر كل نعمة، وتفريطك في استعمالها فيما يرضي ذا الفضل والمنة.
بل اجعل توبتك الآن.. نعم، الآن.. عل هذه التوبة أن تكون سببا في رفع ما أنت فيه من كربة، ودفع ما تعانيه من شدة..
قال علي- رضي الله عنه-: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة.. وإن لم يكتب لك من مرضك شفاء، فنعم ما يختم العمر به توبة صادقة..