لعل من أهم القضايا الشائكة التي ذاع صيتها في السنوات العشر الأخيرة قضية صراع الأجيال، على أن هذا الصراع زاد حدة في الأونة الأخيرة مع انتشار وسائل الإعلام إضافة للتطور والانفتاح الذي أصاب مجتمعنا العربي.
وبرزت المشكلة هنا بين جيل من الآباء المحافظين المتمسكين بالموروث والتقاليد القديمة التي نشؤوا عليها وجيل من الشباب نشأ في ظل انفتاح اجتماعي وثقافي واسع وبالتالي رفض كل ما هو تقليدي وموروث.
غير أن المشكلة لا تقف عند حد الاختلاف بل تتعدى ذلك إلى مستوى الصراع، حيث يتهم جيل الآباء جيل الأبناء بالسطحية والانحطاط في ممارسة عادات اجتماعية كارتداء ملابس غربية والاستماع لموسيقى وأغانٍ يعتبرها بعيدة كل البعد عن الفن الأصيل، في حين يتهم هذا الأخير سابقه بتمسكه بثقافة رجعية متخلفة وعدم قدرته على التعايش مع المتغيرات التي تعتري المجتمع.
وتنسحب هذه القضية على جميع المراحل التي يمر بها الشاب عبر مسيرته الحياتية لتشكل ثنائيات متناقضة (أب – ابن)، (أستاذ – طالب).
وسنحاول في هذه السطور إلقاء الضوء على هذه المشكلة بأبعادها المختلفة من خلال استعراض آراء عدد من الأشخاص المنتمين إلى الجيلين (الآباء والبناء) وتصورهم للحلو الممكنة.
ظاهرة قديمة
يرى لؤي حريبة (ماجستير فلسفة – جامعة دمشق) أن ظاهرة صراع الأجيال قديمة جداً، فقد عرفها الإنسان عبر تاريخه الطويل بكل جوانبها السلبية والإيجابية وتبرز هذه الظاهرة بشكل جلي في الحقب التي تكون فيها تغيرات الأنماط الثقافية والاجتماعية حادة وتخلق ردات فعل كثيرة حتى تكاد تكون ذاتية في بعض الأحيان.
ويبرز الصراع بشكل أساسي في العلاقات بين الآباء والأبناء داخل الأسرة التي تشكل البنية الأساسية للمجتع حيث أن لكل من الجيلين منطلقاته الفكرية التي تحدد نظرته إلى الحياة، فالخلاف هنا هو خلاف طبيعي في وجهة النظر ضمن سياق التطور الاجتماعي العام شريطة ألا يتحول إلى نوع من الصراع والتنافر.
ويؤيد صفوان عبد الحميد (معهد متوسط هندسي) هذا الرأي إذ يؤكد أن مشكلة اختلاف الآراء بين الأجيال أزلية في كل العصور، فالتمسك بالعادات والتقاليد يتناقض من حين لآخر. والحفاظ عليها أمر في غاية الصعوبة نظراً للتطورا المتلاحقة التي يشهدها العالم خلال هذه الفترة، وهي نقطة نقاش متتالية بين الشباب وكبار السن وغالباً ما تشهد اختلافات. ويضيف صفوان: إننا كشباب علينا أن نعترف بفضل أهلنا ونحترمهم ونأخذ بآرائهم مهما كانت مخالفة لنا ويجب ألا ننسى أنهم تعرضوا أيضاً لانتقادات من أولياء أمورهم واستطاعوا تفاديها حتى وإن كانت قليلة مقارنة بما يدور هذه الأيام.
مرحلة انتقالية
يعلل أوس مرعي (ماجستير علم اجتماع – جامعة دمشق) الصراع القائم بين الأجيال بأن المجتمعات عامة والعربية بشكل خاص تمر بمرحلة انتقالية صعبة تتشكل فيها أفكار واتجاهات الشباب للانتقال من طور القيود وتلقي الأوامر والتعليمات إلى طور الحريات والقدرة على التعبير، نتيجة التطور السريع في جميع مجالات الحياة والذي لن يستطيع الآباء الحول دون تقدم مسيرته رغم محاولاتهم إرغام أبنائهم على العيش في ظل ثقافة محافظة، لاعتقادهم بأن هذا التطور في الفكر والاتجاه يقود الشباب إلى الهاوية.
من جانبها فاطمة أحمد (أدب فرنسي) تعزو سبب الصراع إلى ظروف سياسية واقتصادية تلقي بظلالها على الواقع الاجتماعي وتخلخل العديد من مسلماته وثوابته، حيث يلعب عدم الاستقرار السياسي في المنطقة دوراً رئيسياً في العلاقة بين الآباء والأبناء اذ نجد الشباب اليوم غير مبالين بجميع القيم الاجتماعية كما أنهم يعيشوا حالة من عدم الثبات في المبادئ والأفكار إضافة إلى أنهم بحاجة لمتطلبات كثيرة غير متاحة في ظل الوضع الاقتصادي السيء ما يجعلهم ساخطين على هذا الواقع بكل قيمه.
سلطوية ومبادئ جامدة
تؤكد رحاب عمورة (إعلام) أنه لا بد من الاحتكاك والصراع بين الآباء والأبناء حول مختلف المواضيع السياسية والثقافية، لأن الأهل يعتقدو دائماً أنهم أكثر خبرة من أبنائهم ويحاولون بالتالي فرض رأيهم بسلطوية تنفي الطرف الآخر.
من جانبه يؤكد عمار نصري (هندسة ميكانيك) أن جيل الشباب ينظر للأمور بشكل عملي عكس جيل الآباء الذين يتمسكون بمبادئ جامدة في التعامل مع الآخر إضافة إلى أنهم لا يستطيعون التعامل مع التكنولوجيا الحديثة وذلك يعود لأنهم كانوا وما يزالوا يعيشون في حيز ضيق من العالم ويتعاملون مع أشخاص بعينهم دون أن يحاولوا تغيير هذا الواقع لذلك نجدهم يحاولون فرض رأيهم في جميع الأمور حتى ولو كان خاطئاً، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على أساتذة الجامعة فالعديد منهم نال شهادته في السبعينات وما زال على عقلية الأمس رغم التطور الحاصل في وسائل اكتساب المعرفة، لذلك نجدهم يعانون نقصاً حاداً في المعلومات و بالتالي يلجؤون إلى القمع لتبرير ذاتهم.
عدم تواصل
يؤكد الدكتور محمد الرفاعي (قسم الإعلام – جامعة دمشق) أن جيل الشباب اليوم مستوى طموحه أعلى بكثير من مستوى إمكاناته، لذلك نجده دائماً يحاول التمرد على محيطه الأسري وعلى تقاليده وثقافته الاجتماعية. من جانب آخر فإن جيل اليوم أصبح جيل اتصالي دون أن يكون تواصلي، فثورة الاتصالات التي تواجهها عززت الفردية لدى هذا الجيل، إذ نلاحظ أن أدوات التقنية (كمبيوتر – خلوي) أصبحت ذات استخدام فردي حيث يتعامل الإنسان يومياً مع كم هائل من المعلومات دون الحاجة إلى الاتصال بالناس لاستقاء هذه المعلومات.
في ذات السياق تؤكد بسمة شندي (إعلام) أن ما يميز جيل اليوم هو التصنع أو عدم المصداقية في علاقاته، حيث نجده غير ملتزم في علاقته مع الآخر وهذا يعود إلى أنه يتعامل مع لغة أرقام (كمبيوتر – انترنت) وهذا يجعله أكثر تفكاً ويفقده الجانب العاطفي الذي يتمتع به الجيل الماضي (جيل الآباء) والذي يبدو أكثر ترابطاً وصدقاً في علاقته كما أنه أكثر بساطة في التعامل مع الآخر.
أكثر مرونة
على الجانب الآخر يؤكد أحمد اسماعيل (أدب عربي) أن جيل اليوم لاقى من التطور والحداثة ما لم يلاقه أي جيل آخر لذلك نجده أكثر مرونة من الأجيال السابقة وذلك بسبب اكتسابه ثقافة واسعة وفرتها وسائل الاتصال الحديثة والسرعة في الحصول على المعلومات أو الاحداث ساعة وقوعه وهذه الأمور لم تكن متاحة فيما مضى لذلك نجد الأجيال السابقة أقل مرونة في التعامل مع الآخر.
ويذهب أيهم أخضر (رياضيات) إلى أبعد من ذلك إذ يؤكد أن حديثي السن من الأطفال لديهم قدرة أكبر على استيعاب التطور والتقدم، حيث نجدهم سريعي التعامل مع التكنولوجيا (الكمبيوتر والانترنت) قياساً بذويهم الذين لا يملكون أدنى فكرة عن استخدام هذه التقنية أضف إلى ذلك أن نسبة كبيرة من الآباء يتمسكون بالطرق التقليدية (كالكتاب مثلاً) للحصول على المعرفة ويفضلونها على غيرها.
انعدام الأخلاق
يؤكد فضيلة الشيخ أسامة الخاني مدير التعليم الشرعي في وزارة الأوقاف أن مشكلة الجيل الحالي هي افتقاره إلى الأخلاق وهذا أمر نرده إلى فقدان المربي في البيت والمدرسة، كما أن تعدد وسائل الإعلام- خاصة الغربية -وما تقدم من أمور سيئة عزز مسألة فقدان الأخلاق في الجيل الحالي وأدى إلى رفض هذا الجيل لجميع القيم والتقاليد الموروثة لذلك فهو يقترح إعادة تأهيل الأهل والمعلم على السواء لممارسة دورهم في تربية الجيل الحالي على الأخلاق التي من دونها لا يمكن بناء مجتمع سليم.
في المقابل تؤكد إيمان محرم (أدب فرنسي) أن رجال الدين يحكمون على هذا الجيل من خلال ما يعرض في الفضائيات ما يجعل أحكامهم تفتقر إلى الدقة في كثير من الأحيان، لذلك فهم يسمون هذا الجيل بأنه غير أخلاقي ومنحل قيمياً، فيما نجد نسبة كبيرة من الشباب ملتزمين دينياً وأخلاقياً ربما أكثر من الأجيال السابقة، أضف إلى ذلك أننا لا نستطيع أن نعتبر ظاهرة الفيديو كليب دليل على انحلال هذا الجيل، فهي تمارس ضمن حيز ضيق وتمثل شريحة صغيرة جداً من الشباب.
من جانب آخر يرى عمر شعبو (حقوق) أن الخلل الأخلاقي موجود في المجتمع منذ زمن طويل ولا نستطيع أن نُسم جيل ما بأنه لا أخلاقي وعلى كل حال فالمسألة تتعلق بالوضع الاجتماعي والاقتصادي في أي بلد، على أن رجال الدين يسعون دائماً إلى الإصلاح عبر تضخيم الأمور وهذه الفكرة موجودة أيضاً في الإعلام أن تحارب الأشياء خلف إطار عام، وهذا ينفي وجود هذه الظاهرة وإن بحجم أقل.
حوار متبادل
يؤكد الدكتور محمد الرفاعي أن العلاقة القائمة بين الأجيال هي علاقة حوار وليست صراع ولكن في بعض الأحيان يدفع البعض بالحوار إلى طريق مسدود يبدو معه الأمر على أنه صراع لكنه مجرد اختلاف في وجهات النظر وفي المفهوم العام للحياة.
وينسحب هذا الأمر على العلاقة بين الأستاذ والطالب حيث يحكم هذه العلاقة مجموعة متغيرات مثل طبيعة الطلاب والحالة المزاجية والنفسية للأستاذ وطبيعة المقر ثم طبيعة الإدارة الجامعية كل هذه الأمور تحدد مجتمعة ماهية العلاقة بين الطرفين، يضيف د. محمد: هناك من يدعو إلى علاقة طبيعية جداً أو (أحمدية) يلغى فيها بروتوكول اللقاء وأنا شخصياً لست مع هذه العلاقة، إذ لا بد من وجود حاجز معين بين الأستاذ والطالب حتى تصبح هناك علاقة سليمة تهدف إلى رفع المستوى الفكري والنفسي للطالب.
على الجانب الآخر يؤكد لؤي حريبة أن ما يشوب العلاقة بين الأستاذ والطالب داخل المؤسسة التعليمية هو الصراع الدائم، وهذا مرده إلى أن الأستاذ ملزم بمنهج معين في التعاطي مع المتغيرات يحدده الإطار المنهجي المتبع في المؤسسة التعليمية والذي لا يراعي غالباً أن الطالب أصبح أمام مصادر متعددة لصياغة الوعي يجب تناول من قبل المدرس بالتقويم حتى يضمن قدر الإمكان الإقلال من تأثيراتها السلبية، ويضيف لؤي: إن من النادر أن يراعي النظام التعليمي الأساليب الجديدة في التدريس، حيث لا تزال الطريقة التلقينة هي السائدة حتى الآن في مختلف مؤسساتها التعليمية (المدرسة – الجامعة) وهذا ما يخلق لدى لطالب رد فعل سلبي تجاه النظام التعليمي.
مقترحات
تقترح رحاب عمورة أن يكون هناك تقارب أفكار بين الطرفين أي أن يحاول الآباء التخفيف من سلطويتهم وأن يتفهموا الجيل الجديد، وأي يحاول الجيل الجديد في المقابل استيعاب الجيل الماضي ليكون هناك آلية للحوار بين الطرفين.
من جانب آخر يؤكد عمار نصري على ضرورة الوعي في التعامل بين الجيلين كما أنه يدعو الجيل الحالي لأن يعي أخطاء سابقيه ويتجاوزها.
غير أن بسمة شندي تطالب الجيل الحالي أن يبحث عن الإيجابيات الكثيرة عند الجيل الماضي سواء في العادات أو التقاليد أو النظرة للحياة ويحاول تطبيقها في هذا العصر إذا أراد أن يصبح حضارياً وتعني بمصطلح حضاري: الصدق في التعامل مع الآخر.
أخيراً يؤكد د. محمد الرفاعي على ضرورة الفهم الصحيح لآلية العلاقة بين الطرفين عبر تحديد أهداف هذه العلاقة وأبعادها الاجتماعية والثقافية للوصل إلى مستوى علائقي متطور و مثمر يبتعد عن النفعية إلا في جانبها الفكري والثقافي