يدور حال المسلم بل وحال كل البشر أيضا بين حالين لا ثالث لهما مع النعم , إما في إقبال من النعمة أو في إدبار منها , فقد تقبل عليه الدنيا وزهرتها فتتسع أرزاقه , وقد تدبر عنه ويضيق رزقه وتشتد عليه أموره
وغالبا ما يجمع العبد الحالين عند النظر لكل النعم مجتمعة , فبينما يوسع الله عليه في نعمة من نعم الدنيا فقد يضيق عليه في نعمة أخرى , كأن يرزق المال ولا يرزق الولد , أو يرزقهما معا ويفقد الصحة أو غير ذلك , ولا يوجد من ينال كل النعم في الدنيا لكي يشعر العباد – كل العباد – أنهم عباد ضعفاء لا حيلة لهم ولا قوة وليزدادوا إيمانا وتصديقا بضعفهم وقلة حيلتهم واحتياجهم لخالقهم ومولاهم , فما من عبد إلا ويحتاج أن يمد يده في جوف الليل لمولاه طالبا منه قضاء حوائجه وتحقيق مآربه .
وكلا الحالين في كل النعم ابتلاء واختبار , فإقبال النعمة ابتلاء يبتلى الله العبد به ليظهر معدنه الحقيقي وهل سيحيل الأمر لربه فيقول كما قال سليمان عليه السلام حينما رأى نعمة ربه في تحقيق مراده بحصوله على عرش ملكة سبأ " فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ " , أم سيكون مثل قارون حينما طغى وتجبر وظن أنه مسبب أسباب الرزق " قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي "
وإدبارها أيضا ابتلاء يبتلى الله به عباده ليظهروا ما خفي داخل أنفسهم وهل سيرضون بقضاء الله وقدره ويكونوا مع المؤمنين الصادقين الذين يسلمون لله في كل فعل وقضاء فيقولوا كما أوصاهم الله " وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " , أم سيكونون مما يبتعدون عن طاعة الله وتدخلهم البلاء في مهاوي المعصية ممن قال الله فيهم " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ "
ويختلف قضية إقبال النعمة أو إدبارها عن قضية الخير والشر للعبد تماما , فليس بينهما تلازم , فقد يكون إقبال النعمة – على عكس ما يظن الناس – شرا , وأيضا قد يكون إدبار النعمة هو الخير المحض , فالله يعلم ونحن لا نعلم من بواطن الأمور شيئا , وصدق الله القائل " وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ " فالله هو الخبير البصير بحال كل عبد وبما يصلحه من إقبال أو إدبار من النعم
فكم رأينا وعلمنا أناسا كان إقبال النعمة عليه شرا مستطيرا وجر عليهم كل المساوئ , فابتعد عن ربه ونسي عبادته واغتر بما وهبه ربه , وصدق قول الله فيهم " وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ "
وليس كل بلاء شرا , فقد ينسى العبد أنه عبد ضعيف وخاصة عند إقبال النعمة عليه من صحة ومال وسعة رزق وولد فيبتليه الله عز وجل بفقد إحدى هذه النعم لكي يعود المؤمن ويعي مقامه فيستقيم حاله بعد اعوجاج , ويرجع ويتوب ويتضرع لربه سبحانه " فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا "
وطوبى لمن رفع يده إلى ربه وتضرع له في سؤاله الآخرة لا الدنيا , وشغله أمر معاده عن أمر دنياه , وساعتها ينال راحة الدنيا ونعيم الآخرة كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ"