إعداد : محمد بن عبدالعزيز الشمالي
المقــدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن الحديث عن الحج حديث عن ركن من أركان الإسلام التي فرضها الله على عباده فهو جزء لا يتجزأ عن هذا الدين بل هو أحد مبانيه العظام وهو مدرسة يتعلم فيها كل حاج, فما أن ينتهي من أداء هذا الركن إلا وقد حاز على الكثير من الفوائد وجنى العديد من الثمار بتنقله وتقلبه بين مشاعر الحج.
وإن فوائد الحج ليست مقتصرة على الحجاج فحسب بل هي شاملة لكل من ينتسب لهذا الدين فالجميع في المنفعة سواء.
وبين يديك أخي الكريم اطرح جملة من المقاصد لنعيش سوياً مع معاني الحج وحكمه وأسراره.
أسال الله أن يوفق الحجاج في حجهم وأن يجعل حجهم مبروراً وسعيهم مشكوراً وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
محمد بن عبدالعزيز الشمالي
المقصد الأول/ أن العبادة توقيفية .
إن الحج عبادة توقيفية فلا اجتهاد فيها مع النصوص الشرعية فهي حق لله عزوجل لا حق لأحد فيها فهو المشرع لهذه العبادات وحده كما قال تعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(1),وهذا نراه جلياً وواضحاً في الحج ,فالطواف والسعي سبعة أشواط والرمي بسبع حصيات والوقوف بعرفة في يوم عرفة في التاسع من ذي الحجة إلى غير ذلك.
ولا حق لأحد أن يغير أو يبدل ما شرعه الله وهذا يغرس في النفس صدق العبادة وإخلاصها لله عز وجل وكمال التسليم لأمره وأن الشرع ما شرعه الله لا تلك البدع والضلالات التي هي من صنع البشر .
وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم بطلان كل عمل لم يوافق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه .
ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (2)
المقصد الثاني/ تربية للمسلم على التوازن في حياته اليومية.
إن الإسلام دين عدل ووسطية حتى مع حقوق المسلم على نفسه ,فالإسلام لا يأمر بأمر فيه ضرر أو إجحاف بل كل أوامره ونواهيه تصب في مصلحة من ينتمي إليه فعلى سبيل المثال يقول الله تعالى (..لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ.. ) (3).
فالحج يجمع بين مصالح الفرد الدنيوية من بيع وشراء وغيرها وبين مقاصد هذه العبادة من ذكر وصلاة ودعاء وغير ذلك .
وهذا يدلنا على أن الإسلام ما منع من شيء إلا وأباح أشياء أخرى وهذه هي عين مراعاة حاجات الإنسان .
والمتأمل في حياة المسلم اليومية تجده بين مباحات لا غنى له عنها وواجبات لابد له من عملها ومحرمات يحرم عليه فعلها وقد منع منها اختباراً وابتلاء على صبره عنها .
ومع ذلك كله تجده يوازن بين المباح من مأكل ومشرب وملبس وبين الواجب من صلاة وبر وصلة وغيرها وبعيداً كل البعد عما منع منه.
وفي أيام الحج تتأصل هذه المبادئ وترسخ ليعيش المسلم متوازناً في حياته بلا إجحاف ولا تقصير.
المقصد الثالث/ تحقيق مبدأ المساواة .
إن مبدأ المساواة يتجلى واضحاً في الحج حيث يجتمع المسلمون من كل جنس ولغة ولون ووطن في صعيد واحد لباسهم واحد وعملهم واحد ومكانهم واحد ووقتهم واحد وحدة في المشاعر ووحدة في الشعائر ,وحدة في الهدف , ووحدة في العمل ,ووحدة في القول.
عن أبي نضرة قال حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال (إن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى) (4).
وعلى هذا يتربى الأغنياء والمترفون أنه مهما كثرت الأموال ومهما ارتفعت المناصب فليس المال وليس المنصب وليس الجاه هو المقياس الحقيقي للتفاضل والتفاخر بل تقوى الله وإخلاص العبادة له وحده هي مقياس التفاضل ,فما فاق بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي أبا جهل وأبا لهب بالنسب ولا بالمنصب بل بحقيقة التفاضل وهو إيمانهم بالله وحده ولهذا نالوا شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ومرافقته.
وهي دعوة للتواضع وهضم النفس لتعرف حقيقة هذه الدنيا وأنها فانية وزائلة.
المقصد الرابع/ التعلق بالله وحده ونبذ ما سواه من المعبودات
الحج يُؤصل معنى مهم في قلب كل حاج فمنذ شروع الحاج في بداية الحج بلبس ملابس الإحرام وهو يؤكد في نفسه صلته بالله وحده ومرجعه إليه وأن لا معبود سواه يُعبَد بحق فله يصرف جميع العبادات وإليه يتقرب بجميع الطاعات والقربات.
وإذا تأملنا باقي المناسك من طواف وسعي ووقوف بعرفة ورمي الجمار وغيرها لوجدناها تؤكد ذلك المعنى وتؤكد حقيقة قول الله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (5)
ولترسيخ عقيدة التوحيد كان شعار الحج (لبيك اللهم لبيك) شعار التوحيد , يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم (فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) (6), فهي تربية للنفس على توحيد الله والإخلاص له ونبذ كل من سواه من المعبودات الباطلة .
ولذا يقول ابن القيم في معنى هذه التلبية:(أخلصت لبي وقلبي لك وجعلت لك لبي وخالصتي) (7).
المقصد الخامس/ تأصيل مبدأ ( إنما المؤمنون إخوة )
فحينما يقصد الحجاج من كل بلاد الدنيا مكاناً واحداً في وقت واحد على هيئة واحدة ويؤدون منسكاً واحداً يتحقق في النفوس أخوة الدين التي جمعتنا ينادي كل أخ أخاه ويحاكيه متذكراً تلك الأخوة التي عاشها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتي كانت من أول الأعمال التي قام بها حين قدم المدينة مهاجراً فآخى بين المهاجرين والأنصار فتحقق بذلك أخوة الدين .
ولنتأمل قول الله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (8)تلك الرابطة التي ارتضاها الله عزوجل لأهل الإيمان وهي أقوى من أخوة النسب فما أجمل تلك الأخوة وما أسماها لأنها قامت على أساس هذا الدين فالمحرك والدافع لها هو هذا الدين.
ولنتذكر وصية الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا) (9)
فيعطف المسلم على أخيه المسلم وينصر قضيته ويهمه ما أهمه وهذا سر عجيب من أسرار الحج .
المقصد السادس/ التعارف .
في الحج يتحقق ذلك المعنى الرفيع كما أخبر الله بذلك فقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (10)وإن اختلفت اللغات والأوطان والمشارب فالتعارف من أكبر أسباب الألفة بين أهل الإسلام.
وحينما نقرأ هذا الحديث يقودنا لشعور صادق وحس عجيب, فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:( الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) (11),فما أجمل هذه الأرواح وهي تتعارف لتتآلف وتتوحد حباً ودفاعاً ونشراً لهذا الدين.
والخير للمؤمن أن يكون ممن يألفه الناس ويأنسوا به فعن سهل بن سعد الساعدي قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(المؤمن مألفة ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) (12)
المقصد السابع/غرس كثير من الصفات و الأخلاق الحميدة.
الحج مدرسة الأخلاق وميدان تربية النفس على معالي الأخلاق, والتباعد والتجافي عن سيء الأخلاق ورديئها .
يحدوه في ذلك خلق سيد البشر صلى الله عليه وسلم الذي كان مناراً لكل حائر في ظلمة الأخلاق, مستشعراً تلك النداءات النبوية والوصايا الإيمانية بالتخلق بكريم الأخلاق والاتصاف بجميل الطباع .
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( إن من خياركم أحسنكم أخلاقا) (13)
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق) (14)
ومن أهم هذه الصفات والأخلاق التي نستقيها من الحج صفة الصبر والحلم والرحمة والشفقة والإيثار والتعاون وهذه الصفات وغيرها تغرسها كثير من أعمال الحج وتنبذ القبيح والرديء والسيء من الأخلاق كما قال تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ..) (15)
المقصد الثامن/المداومة على العبادة .
من أبرز ما يجنيه الحاج من حجه ؛ الدوام والاستمرار في العبادة بعد الحج وهو علامة على قبول العمل كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن أحب العمل إلى الله قال 🙁 أدومها وإن قل) (16) فالحاج في خلال هذه الأيام القلائل يتنقل من عبادة إلى عبادة فما أن تنتهي عبادة إلا وتبدأ عبادة أخرى.
وبهذه الأعمال تتربى النفس على العبادة وعلى التنقل بين العبادات تقرباً إلى الله وأنساً به فتنقلب العادات إلى عبادات وبذا يتحقق مقصد وحكمة خلق الله للأنس والجن كما قال تعالى(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (17).
وما هذه المواسم من حج وصيام رمضان وغيرها من العبادات إلا ليتجدد في نفس المؤمن إيمانه وليكون دائم الصلة بربه لكي لا تتخطفه ظلمات الضلال والانحراف عن هذا الدين.
فما أحرى المسلم أن يكون شعاره الدائم (قليل دائم من العمل الصالح خير من كثير منقطع).
المقصد التاسع/ التعود على الانضباط .
فالحج في شهر ذي الحجة وصيام رمضان في شهر رمضان ومواقيت الصلاة في وقت محدد معروف وغيرها من العبادات فتلك هي منظومة تربي المسلم على أن يكون منضبطاً في حياته ويزداد ذلك حينما يكون في أيام فاضلة كأيام الحج يتنقل فيها الحاج من عبادة إلى عبادة ليعود المسلم نفسه على أن يكون منضبطاً فلا يقدم شهر الحج عن شهره ولا يوم عرفة عن يومها ولا الرمي عن وقته ولا الطواف عن موعده.
فمواقيت العبادة في الحج منضبطة فلا يمكن أن يؤخر بعضها ولا يقدمها ولو لثواني .
وهي دعوة لأن يتميز المسلم عن غيره بانضباطه في مواعيده وأعماله فيعتاد الانضباط في حياته كلها ومع الآخرين .
المقصد العاشر/اعتياد النظام.
إن مما تحتاجه البشرية في تنظيم حياتها أن يعتادوا على النظام في حياتهم والذي له الدور البارز في حل كثير من أزماتهم , فما نراه من تلك الأنانية والفوضوية في مجتمعاتنا لهي أكبر دليل على بعدنا عن المنهج الرباني الذي يضمن السعادة للبشرية وهذا ما يراه الحاج جليا ويتربى عليه في مناسك الحج.
فحينما يكثر عدد الحجيج في مكان واحد يتجلى لنا ذلك المقصد بكل أبعاده وتظهر لنا حقيقة وحكمة أن يتربى أهل الإسلام خصوصاً على اعتياد النظام في حياتهم .
فالطواف حول الكعبة مع شدة الزحام,وتقبيل الحجر الأسود وكثرة من يقصد تقبيله لا يستطيع أن يتقدم أحد على من كان قبله وكذا رمي الجمرات واصطفاف الحجاج أفواجاً بسير واحد وجهة واحدة ومرمى واحد بترتيب ونظام, كل ذلك من أكبر الوسائل على تربية المسلم ليكون في نفسه حب النظام والبعد عن تلك الأنانية وتلك الفوضوية, فما أروعه من مقصد.
المقصد الحادي عشر/تعويد النفس على الخشونة وصعوبة العيش.
فالحاج يحرم نفسه كثير من الترف الذي كان قد اعتاد عليه قبل إحرامه ويحرم نفسه من مباحات كان يتمتع بها قبل أن يهل بحجه ,مثل الطيب وحلق الشعر والصيد وغيرها من محظورات الإحرام ليعود المسلم نفسه على الصبر على شظف العيش وشدته.
كما أن كثرة العدد في مكان مزدحم ضيق والتنقل بين المشاعر مع البعد والمشقة كل ذلك لتعويد النفس على تحمل الصعوبات.
ولأجل أن يتذكر المسلم أولئك الذين يعيشون في شظف وضيق وشدة من العيش وفي حاجة ماسة للطعام والشراب والكساء,مما يجعله يغرس في نفسه حقيقة دعانا الرسول صلى الله عليه وسلم إليها بقوله 🙁 لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (18) فيعيش للآخرين لا لنفسه فحسب .
فالحج تربية على القناعة في اللباس حيث يلبس خرقة من قطعتين فتكفيه, والقناعة في السكن حيث يسكن في مكان بقدر نومه فيغنيه ,والقناعة في الطعام حيث يأكل من الطعام وربما نفسه لا تشتهيه, فما أعظمها من مقاصد .
المقصد الثاني عشر /إلغاء جميع الشعارات إلا شعار واحد.
كثيراً ما نسمع ونقرأ ونرى من تلك الشعارات الزائفة والباطلة والتي ترتفع بين حين وأخر ,داعية لمذهب أو لجنس أو لقبيلة أو لوطن مما يؤجج في النفوس الضعيفة الشحناء فتتسع تلك الفجوة ولتزداد تلك الفرقة بين أهل الإسلام أحزاباً وشيعاً ,وبذلك يقوى أعداء الإسلام ويسهل عليهم تمزيق المسلمين .
ولذا كان شعار جميع الحجاج واحد (لبيك اللهم لبيك) شعار التوحيد , يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم (فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك) (19)
فهي تربية لأهل الإسلام كلهم أن يتوحدوا بشعار واحد وأن يبطلوا جميع الشعارات التي كانت سبب فرقة وخصام ,ليحققوا مراد الله عز وجل في توحيده وفي شهادتهم بـ(لا إله إلا الله) ليعم الخير والإسلام في جميع أنحاء الأرض ويكون هو منطلق كل داع يدعوا لهذا الدين .
فالحاج يبدأ حجه بالتوحيد ولا يزال يلبي بالتوحيد ويتنقل من عمل إلى عمل بشعار التوحيد وهو شعار جميع الحجاج ولا شعار لهم غيره فما أجله من شعار يهتفون به في جميع المشاعر.
المقصد الثالث عشر/ اعتياد الذكر.
إن من سعة رحمة الله وفضله أن جعل الحج كله مواطن ذكر فالإحرام فيه ذكر وعرفة ذكر ومزدلفة ذكر ومنى ذكر والرمي ذكر والطواف ذكر والسعي ذكر وهو مادة الحج قال تعالى (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ) (20)
وكما قال تعالى (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (21).
كل ذلك ليتحقق في النفوس أن طمأنينة القلوب وراحتها بذكره عزوجل كما قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (22),فما أعظمها من نعمة حين يعتاد هذا اللسان على دوام ذكر الله عزوجل في كل حال من الأحوال كما قال تعالى(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ) (23).
فما قصد الحجيج مكة من جميع بقاع الأرض إلا حباً لربهم وأُنساً بعبادته وتلذذاً بالتعب في سبيل طاعته,فحريٌ بهم أن يأنسوا بذكره على جميع أحوالهم
المقصد الرابع عشر/ تربية الضمير .
كم تحتاج المجتمعات المسلمة أن تتميز عن غيرها من المجتمعات في أخلاقها وفي عاداتها وفي عباداتها, فها هو الحج يغرس في نفس كل مسلم تلك الغايات النبيلة والأخلاق الفاضلة المؤثرة ليكون الحاج قدوة خير ومنار هدى لمن يراه ويخالطه من المسلمين وغيرهم.
فالمسلم لا بد وأن يربي نفسه على مراقبة الله عزوجل وأن يكون له ضمير يردعه ويحبسه عن كثير من الأقوال والأفعال والأشياء التي فيها ضرر وهي ممنوعة ومحرمة شرعاً .
ومن الأمثلة التي تربي المسلم على ذلك في أعمال الحج الطواف ففيه اختلاط بين الرجال والنساء فيتربى المسلم على أن يغض بصره ولا يطلق له العنان في رؤية ما حرم الله ,كذلك التنقل لأداء شعائر الحج قد تكون هناك فرصة مهيأة للسرقة أو الاعتداء على أمتعة الحجيج ولكن الحج يربي النفس على مراقبة الله في كل وقت وعلى كل حال, وغيرها من الأمثلة التي ترسخ مثل هذه المعاني والمقاصد.
حتى يعود الحاج بعد حجه بعيداً كل البعد عن تلك المحرمات التي يكون بها ضرر عليه أو على غيره ليعيش المجتمع المسلم مجتمعاً محافظاً نزيهاً قدوة لغيره من المجتمعات التي وقعت في وحل كثير من المفاسد والشرور.
المقصد الخامس عشر/ تذكر الحقيقة الغائبة.
فلباس الإحرام يذكر المسلم بحقيقة غابت عن تفكيرنا وكرهتها نفوسنا وكم نهرب منها ولا بد لها أن تدركنا وأن نشرب من كأسها, إنها مفارقة هذه الحياة والانتقال إلى حياة البرزخ ثم الحياة الآخرة ,كما أخبرنا الله عنها بقوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) (24).
فالحاج حينما يلبس الإحرام فإنه يشابه تلك الأكفان التي يكفن بها الميت ليلحد في قبره ,كما أن ذلك الجمع الغفير من الحجاج في مكان واحد وكل واحد منهم يلهج لسانه بدعاء الله أن يتقبله ويعتقه من ناره, يذكره بموقف المحشر الذي يجمع فيه جميع الخلق وكل فرد قد شغل بنفسه عن غيره كما وصفهم الله بقوله (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (25), فحريٌ بالمسلم أن يكون دائم القرب من الله بعيداً عن معصيته ومخالفة أمره مستعداً لهذه الحقيقة في أي وقت حلت به وأدركته بعمل صالح يفرح به ويُسر يوم أن يلقى الله ,ولذا كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم :(أكثروا ذكر هادم اللذات ـ الموت) (26).
المقصد السادس عشر/ تربية على الموالاة لأهل الإيمان والمعاداة لأهل الكفر والشرك.
فالحج تبرز فيه خاصية مهمة يتربى عليها أهل الإسلام ليكون لهم منهجاً يسيرون عليه في حياتهم وفي تعاملاتهم وهو مبدأ الموالاة لأهل الإيمان والبراءة من أهل الشرك والكفر .
كما قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (27).
فلا يحضر هذا المؤتمر الإسلامي المشهود إلا أهل الإسلام , ليتحقق ذلك المعنى في النفوس فلا يلتفت الحاج في حجه يمنة ويسرة إلا ويجد أخاه من أهل الإسلام فيرتفع شأنه وتسمو عزته ويزداد ولاؤه لأهل الإسلام وتظهر براءته من أهل الكفر والشرك مهما كانت قرابتهم متذكراً قول الله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ …) (28)
الخــــاتمــة
وختاماً فما أسماها من مقاصد وما أشرفها وأعلاها من غايات نبيلة يتمثلها الحاج بعد حجه ويستنير بها أهل الإسلام أجمع من هذا الموسم العظيم , والميدان الفسيح المليء بتلك المقاصد والغايات الجليلة والنبيلة.
وحقاً هي بعض من المقاصد ولا أدعي أني قد أتيت على جميع المقاصد التي يجدها كل متأمل لأعمال وأيام الحج.
أسال الله بمنه وكرمه أن يتقبل من الحجيج حجهم وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهه الكريم .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) سورة الشورى(21)
(2) رواه البخاري في صحيحه (ج2:ص959),ورواه الإمام مسلم في صحيحه( ج3:ص1343)
(3) سورة الحـج(27)
(4)مسند أحمد بن حنبل ج5:ص411قال الشيخ شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح .
(5) سورة الأنعام(162)
(6) صحيح مسلم ج2/ص887
(7) حاشية ابن القيم على سنن أبي داود ج5/ص176
(8) سورة الحجرات(10)
(9) صحيح البخاري ج5:ص2253, صحيح مسلم ج4:ص1983
(10) سورة الحجرات(13)
(11) صحيح البخاري ج3:ص1213 ,صحيح مسلم ج4:ص2031
(12) مسند أحمد بن حنبل ج5:ص335 قال الشيخ شعيب الأرناؤوط :متن الحديث حسن .
ورواه الحاكم المستدرك على الصحيحين ج1:ص73 عن أبي هريرة وقال:هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولا أعلم له علة ولم يخرجاه)
(13) صحيح البخاري ج3:ص1305
(14) سنن أبي داود ج4:ص253 قال الشيخ الألباني في تعليقه على السنن:صحيح
(15) سورة البقرة(197)
(16) صحيح البخاري ج5:ص2373
(17) سورة الذاريات(56)
(18) صحيح البخاري ج1:ص14
(19) صحيح مسلم ج2/ص887
(20) سورة البقرة (200)
(21) سورة الحـج(27)
(22) سورة الرعد(28)
(23) سورة آل عمران(191)
(24) سورة العنكبوت(57)
(25) سورة الحج(2).
(26) المستدرك على الصحيحين ج4:ص357 قال الحاكم :هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في التلخيص.
(27) سورة التوبة(28).
(28) سورة المجادلة(22)
على ها المجهود الكبير